عناصر شرطة الاحتلال توجه أسلحتها وكلامها للمقدسيين: "لا تحلموا بالدخول من باب حطة إلى المسجد الأقصى"، لكن جاءها منهم الرد سريعًا: "سندخل من باب حطة كما أزلنا البوابات والجسور والكاميرات غصبًا عنكم".
هذه المواجهة مع شرطة الاحتلال المنتشرة في ساحات المسجد الأقصى بمدينة القدس المحتلة كانت أحد مشاهد "معركة البوابات الإلكترونية"، كما يطلق عليها المقدسيون، في تموز (يوليو) 2017م.
الباحث في شؤون القدس جمال عمرو يروي لصحيفة "فلسطين" تفاصيل تلك المعركة التي عايشها واقعًا ملموسًا.
وبدأت قصة "معركة البوابات الإلكترونية" حينما أغلقت آنذاك حكومة الاحتلال المسجد الأقصى ومداخل البلدة القديمة في القدس المحتلة، ومنعت إقامة صلاة الجمعة.
وسبق ذلك أن نفذ ثلاثة شبان فلسطينيين من مدينة أم الفحم عملية إطلاق نار فدائية داخل ساحات المسجد الأقصى، أدت إلى استشهادهم، ومقتل عنصرين من شرطة الاحتلال، وإصابة آخر.
وفي اليوم التالي اعتقل الاحتلال نحو 60، منهم نشطاء مقدسيون وموظفون تابعون لدائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
ثم اضطرت حكومة الاحتلال في 16 تموز (يوليو) 2017م إلى إعادة فتح أبواب المسجد الأقصى بعد إغلاق استمر يومين، شريطة دخول المصلين من البوابات الإلكترونية التي وضعتها بذرائع أمنية.
وقابل المقدسيون شرط الاحتلال بالرفض، وأجمعت المؤسسات المقدسية وأهالي القدس كافة على رفضهم إجراءات الاحتلال، ودعوا في حينها لعدم المرور من البوابات، وأداء الصلوات في الشوارع المحيطة بالمسجد إلى حين إزالتها.
صمود أسطوري
واعتصم الفلسطينيون بكل أطيافهم في محيط المسجد أمام هذه البوابات عدة أيام، وفي الوقت ذاته دعت فصائل سياسية ومرجعيات دينية فلسطينية للنفير العام نصرة للأقصى، والتوجه إلى القدس، والمشاركة في صلاة الجمعة في أقرب نقطة إلى المسجد الأقصى يوم 21 يوليو.
وفي صبيحة الجمعة لبى عشرات الآلاف من الفلسطينيين نداء الأقصى، وأطلقوا عليها "جمعة الغضب"، وفي هذه المشهد يستذكر عمرو قول الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي فيقول: "في القدسِ دَبَّ الجندُ مُنْتَعِلِينَ فوقَ الغَيمْ .. في القدسِ صَلَّينا على الأَسْفَلْتْ .. في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ".
وبعد انقضاء الصلاة هتف المصلون: "بالروح بالدم نفديك يا أقصى" ، و"يا أقصى ما أنت وحيد سيّجناك قلوبنا"، فقمعتهم شرطة الاحتلال، ما أدى إلى استشهاد ثلاثة أشخاص، وإصابة 377 آخرين في محيط المسجد والبلدة القديمة.
"كنت يومها من المصابين في صد هجوم الاحتلال الهمجي على المصلين، وأشاروا علي أن أغادر الميدان، فرفضت، ثم عرضوا علي الذهاب إلى النقطة الطبية من أجل العلاج، فقلت لهم: "هذه السيدة أولى مني، أنا يكفيني العلاج الميداني" هذا المشهد من جمعة الغضب يسرده عمرو، لكنه لم ينته بعد.
وبعدما قدم له العلاج الميداني تابع رباطه في الصفوف الأولى ليخبره أحد الأصدقاء أن زوجته أصيبت خلال مواجهات ذلك اليوم، فيرد: "كلنا فداء الأقصى"، ولم يعلم أنها السيدة ذاتها التي أشار إلى المسعفين بنقلها إلا بعد حين.
تزامنت مواجهات القدس وخروج تظاهرات في مدن عربية وإسلامية وعواصم غربية وأوروبية دعمًا للأقصى.
ويصف عمرو تلك الأيام فيقول: "لقد كان صمودًا أسطوريًّا بتكاتف الكل الفلسطيني في وجه الاحتلال (...) وحينها أدرك الاحتلال أن هذا الشعب لا جدوى منه إلا بالخضوع له".
وبعد مرور ثلاثة أيام (في 25 تموز (يوليو)) قرر المجلس الأمني المصغر إزالة البوابات الإلكترونية من على مداخل المسجد الأقصى، ووضع إجراءات أمنية تكنولوجية متطورة، كما قرر تعزيز الوجود الأمني في البلدة القديمة إلى حين بدء تنفيذ الإجراءات الجديدة على أرض الواقع، التي قد تستغرق ستة أشهر.
ورفض المقدسيون دخول الأقصى حتى عودة الأوضاع لما كانت عليه قبل المعركة، ورابطوا في محيط المسجد، وأدوا صلواتهم في الشوارع.
وفي 27 تموز (يوليو) قرر الاحتلال إزالة جميع العراقل من جسور وكاميرات مراقبة وغيرها التي وضعها في مداخل المسجد الأقصى والبلدة القديمة في القدس.
خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري يؤكد أن البوابات الإلكترونية هي محاولة بائسة من الاحتلال لفرض السيطرة على المسجد الأقصى، مشيدًا بالصمود الذي أظهره المقدسيون في مواجهة هذه المحاولة.
ويقول صبري لصحيفة "فلسطين": "إن الزيادة المتسارعة في أعداد المرابطين التي وصلت لعشرات الآلاف أربكت حكومة الاحتلال، وجعلتها في حالة تخبط واضحة، وأجربتها على التراجع عن قراراتها".
ولا أدل على حالة التخبط من اعتراف وزير التعليم في حكومة الاحتلال نفتالي بنيت بهزيمة الاحتلال، قائلًا: "لقد خرجت (إسرائيل) ضعيفة من هذه الأزمة".
وكان الشيخ صبري أحد الذين أصيبوا خلال قمع شرطة الاحتلال المرابطين أمام باب الأسباط خلال المعركة.
وكثيرة هي الدروس التي رسخها الفلسطينيون في هذه المعركة، أبرزها عدالة القضية الفلسطينية، وأن تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني حتمي، وأن المقدسيين أعادوا ضبط البوصلة تجاه الأقصى.