1300 يوم مرت دون أن تعلم والدة المحرر من السجون المصرية عبد الدايم أبو لبدة أي تفاصيل عن اختفاء وحيدها بعد دخوله الأراضي المصرية خلال رحلته إلى تركيا، لكنها طيلة هذه المدة لم تقطع حبل الأمل الذي تشبثت به.
في يوم الأربعاء 19 أغسطس 2015، أوقف مجهولون حافلة الترحيلات المصرية وكانت تقل مسافرين فلسطينيين، واختطفوا أربعة شبان هم، ياسر زنون، وحسين الزبدة، وعبد الله أبو الجبين، وعبد الدايم أبو لبدة، في سابقة هي الأولى من نوعها تعرض فيها مسافرون فلسطينيون للاختطاف، وقاموا باقتياد المسافرين المختطفين إلى جهة مجهولة.
عيون الأم التي لم يغمض لها جفن طيلة سنوات الغياب، هي اليوم ترسم تعابير الفرح بدلًا من الدموع، إذ لم يعد عبد الدايم هو ذلك المفقود، الذي لم تنتظر هبوطه من المركبة التي عاد بها إلى غزة وصعدتها لتعانقه، في مشهد وثقته عدسات الكاميرات.
ثلاثة أيام تستقبل والدة عبد الدايم المهنئين في منزلها بمخيم البريج بلوك "9"، الجميع هنا يشعر ويشارك هذه الأم فرحتها، فالذي عاد هو نجلها الوحيد، وتقول لصحيفة "فلسطين": "لا أستطيع وصف شعوري بعودة عبد الدايم، بعد 1300 يوم من الغياب.. والحمد لله".
القلب سبقها للبيت
وعن كيفية وصولها خبر الإفراج عنه، قالت عبد الدايم: "كنت خارج البيت قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف ظهر الخميس الماضي، فاتصل بي شقيقي يقول: (ابنك حيطلع.. هي قيادة حماس بالبيت)، لم أستطع تمالك فرحتي بعد سماعي لذلك الخبر؛ جئت أسرع من السيارة كأن قلبي سبقني إلى البيت".
"حينما وصلت إلى البيت كان ممتلئًا بالناس والجيران والأحباب، يرددون زغاريد الفرح".. تقول عبد الدايم التي تزاحمت الكلمات في وجدانها وهي ترتدي الملابس التراثية الفلسطينية سعيدة وسط النسوة بهذا العرس الذي أقيم لاستقبال نجلها، وأضافت: "لم أقطع الأمل بعودة عبد الدايم لي، لكني كنت أتوقع أن يستمر لمدة أكثر من أربع سنوات في السجن".
"أكثر شيء افتقدته خلال تلك المدة هو غياب ابني الوحيد.. فعندما يغيب نصف البيت فماذا تبقى؟ واليوم سأفرح فيه وبعودته سالما ومن ثم سأفرح بزفافه"، انتهت والدة عبد الدايم واستكملت مراسم الفرح مع النساء المهنئات، تعلو الزغاريد، وعبارات الفرحة، تكسوها سعادة مسحت الحزن.
التفاف شعبي يؤكد حجم التلاحم بين أبناء الشعب الفلسطيني، وكأن الحزن والفرح للجميع فقضية المفقودين الأربعة كانت إحدى القضايا الإنسانية الأساسية التي كان يطالب بها أهالي القطاع كافة.
اللحظات الأخيرة
كيف أمضى عبد الدايم ورفاقه آخر اللحظات قبل الإفراج عنه؟ استرجع عبد الدايم شريط الذكريات القريب وقال: "كنت مع زملائي الثلاثة في عزل انفرادي لا نرى بعضنا، جاء ضابط وقال لي: "سوف تحلقون اليوم"، لم أعرف حينها السبب، كان زملائي يصومون يوم الخميس فقلت له: "بكرا صايمين"، فرد: "فش صيام (..) بكرا تفتيش".
ويكمل عبد الدايم الذي يروي التفاصيل وسط جموع المهنئين وهم يسمعون ما يرويه لصحيفة "فلسطين": "في الصباح أحضر الضابط الفطور بشكل مبكر على ما جرت العادة، ثم أحضر الملابس المدنية، وطلب أن أفطر وأرتدي الثياب خلال دقيقتين".
لم يخطر في بال عبد الدايم أنه بعد ثلاثة أعوام ونصف من السجن أن هذه هي آخر محطة، وأن هذه هي لحظة الفرج فيقول: "بعد تلك المدة نسيت الحرية وتعودت على السجن".
خلال تناول الفطور على عجل، اخترقت مسامع عبد الدايم كلمتين خرجت من فم الضابط المصري موجهة له حينما قال: "مبروك حتمشوا".. لم تكن جملة عادية أو كلاما عابرا، هي محطة فاصلة بين ثلاث سنوات من السجن بحلوها ومرها، وبين مرحلة جديدة من الحياة والمستقبل، بين الحزن والفرح، والألم والأمل، الموت والحياة، الظلام والنور، وكأن شمس الحرية أشرقت على قلب عبد الدايم.
ويضيف عبد الدايم والفرحة تكسو ملامح وجهه: "كانت لحظة إخباري بالإفراج فرحة شديدة لا توصف، لكن لكل إنسان قلب، ومن كثرة الوعود التي لم تحصل لم أطمئن حتى رأيت زملائي الأربعة، ورأيت أشخاصًا يتكلمون بلهجة أهل غزة، وهذا ما طمأنني أني سأعود لبلدي".
"شعور لا توصفه الكلمات، ولا جميع الجمل لحظة وصولي إلى معبر رفح، فرجعنا إلى أرض العزة والكرامة"، هكذا يعبر عبد الدايم عن لحظة وصوله إلى معبر رفح.
أما عن تخطيطه للمستقبل القادم يبتسم عبد الدايم ابتسامة ربما غابت طوال تلك السنوات: "سأكمل حياتي الدراسية والعلمية، وسأتزوج لإسعاد قلب أمي كوني وحيدها (...) ومن نعم السجن أني تعرفت على إخواني ياسر زنون، وحسن الزبدة، وعبد الله أبو الجبين".
يختم: "نحمد الله على ما مضى وعلى ما نحن فيه، قد أحسن ربي إذا أخرجني من السجن أنا وإخواني، ونشكر قادتنا وشعبنا وجميع من كانوا من المؤازرين لهذه القضية فهي قضية إنسانية قبل أن تكون أي شيء آخر".