أيام لا تنسى، كانت مليئة بالخوف والرعب، وأصوات القصف، ومشاهد الدمار، والجرحى، والشهداء، خاصة من فئة الأطفال، الذين وضعت جثثهم في ثلاجات "الآيس كريم" لعدم وجود متسعٍ في ثلاجات الموتى، كان مشهدًا قاسيًا على قلب "دعاء"، ولم تتمكن من تجاوزه فيما بعد، فأعادت تجسيد هذا المشهد الصادم، الذي أثار في نفسها الصدمة ومشاعر الاستفزاز، وأعطاها إصرارًا على أن تخوض عدة تجارب وتحديات لأجل إيصال رسالة إنسانية إلى العالم.
دعاء قشطة (28 عامًا) فنانة تشكيلية فلسطينية، من سكان مدينة رفح، تصمم منحوتات على شكل مثلجات، وترسم عليها وجوه رضع استشهدوا في العدوان على غزة عام 2014م، وحُفظت جثثهم يومها في ثلاجة "آيس كريم".
اكتشفت موهبة الرسم منذ طفولتها، فكانت مشاركة دائمة في المسابقات المدرسية، والفوز حليفها أيضًا، إلى جانب أن لديها شغفًا بالأعمال اليدوية كالتطريز، وصنع المجسمات الفنية، ولكن بدأت تطويرها وصقلها عام 2015م، عقب تخرجها في الجامعة وعدم حصولها على وظيفة، وجربت عدة خامات في الرسم، مثل: أقلام الرصاص والفحم، وألوان الخشب، والباستل الطباشيري، والأكريلك، والزيت، والحناء.
فن ناطق
قالت قشطة: "ولجأت فيما بعد إلى النحت الذي هو من الفنون القديمة والأكثر قدرة على التعبير بالفن، إذ إنه يجسد الواقع ملموسًا، وهو دائم، وله مجالات متعددة، وخاماته متنوعة تخدم جميع الأفكار، وهذا بدوره يعطي الفنان مساحة حرة لممارسة أفكاره الفنية في المنزل أو الشارع لرفع الذوق الفني عند الجمهور، ويجب على الفنان الإلمام به نظرًا لتداخله مع الفن المفاهيمي والفنون المعاصرة الأخرى التي أصبحت في تسارع مستمر".
ولديها عدة تجارب متنوعة بالمواد التي تستخدمها للنحت مثل الطينة الطبيعية والصناعية، والجبس والسليكون المطاطي (الربر)، والبلاستيك والشمع.
وأضافت قشطة: "وجاءت فكرة نحت وجوه أطفال استشهدوا في العدوان على غزة بسبب تأثري بالمشهد، واتخذت من المشهد فكرة لعمل مشروعي الفني "آيس كريم العودة" الذي أطرح به أزمة نقص ثلاجات الموتى في مدينة رفح في حرب ٢٠١٤م، واستخدامهم مؤقتًا ثلاجات "الآيس كريم" لحفظ جثث الشهداء الأطفال لكونها تتسع لأجسادهم".
وأوضحت أنها استخدمت فن النحت بالمقاربة السريالية بين الشهداء الأطفال و"الآيس كريم"، والأبعاد غير المرئية التي كانت تتجاوز فيها الصورة المتعارفة والمتناقلة عبر الإعلام، الذي كون لديها تصورًا يجمع بين هذه الصورة المعهودة والصورة الجديدة التي أفرزها الحصار والحروب، ما يكشف عن ردود الأفعال التي تحمل شيئًا من الغرابة، وتخرج عن حدود المنطق وتفوق الوصف، وتعبر عن النمط السائد الخاص بمجتمع غزة في التعامل مع الصدمات الراهنة.
وأشارت إلى أنه يجب استرجاع المشهد السريالي الصادم المتولد عن الأزمة المؤقتة، الذي لا يدل فقط على منهجية الاحتلال بالقتل والتدمير والتخريب، ولكن يدل أيضًا على محاولاته لإخضاع الشعب الفلسطيني، وإضعاف همته وكسر عزيمته من أجل عدم الالتفات في فوضى الحرب التي كادت تصيب عقول الناس بالتوتر والإرباك والتعجيز، وإدخالهم في حالة من الاضطراب والتشويش وإثارة القلق.
"فيقاوم الناس قساوة الحرب بالضغط على مشاعرهم التي استفزتها آلة الحرب، وأصبحت هناك ضرورة ملحة للعلاج، وتحمل هذه الصدمة القاسية تناقضات بالمشاعر تحتاج إلى التفكيك وإعادة النظر فيها لتحديد موقعها ومواقعنا منها"، والكلام لقشطة.
في البداية استخدمت الطينة الصناعية لصنع المنحوتات بأدوات مخصصة للنحت، ثم صنعت قوالب لها من السليكون المطاطي (الربر) والجبس، وبعد ذلك صبت في القوالب عدة خامات مثل الجبس الملون والسليكون المطاطي والبلاستيك والشمع، وفي النهاية اعتمدت مادة الشمع، لأنها تشبه الأطفال في الضعف والهشاشة، ويجب التعامل معها بحرص وحذر شديدين.
واجهت قشطة عدة مشاكل، أهمها نقص وندرة المواد المستخدمة في النحت، وتعاملت معها بإيجاد مواد وطرق بديلة للوصول إلى الشكل المطلوب، مثل إعادة التدوير بالبلاستيك بدلًا من الطباعة الثلاثية الأبعاد.
وقد شب حريق في مرسمها الذي تعمل فيه بسبب ماس كهربائي نتيجة انقطاع الكهرباء ساعات طويلة وعودتها فجأة، ما أدى إلى فقدان وتشوه جزء كبير من الأعمال، ولكن عادت من جديد لإنتاج ما فقدته وتشوه.
وتطمح قشطة إلى المشاركة في المعارض الدولية، وزيارة المتاحف العالمية، وهو الحلم الذي قيده الحصار والمعابر، وأن تستمر في البحث الفني عن القضايا الإنسانية، وتسلط الضوء عليها بإنتاج أعمال متعددة الخامات والوسائط لإيصال رسالة إنسانية بالفن، تعبر فيها عن آلام وآمال أهل غزة تحت الحروب والحصار.
وترغب أن يكون لديها أسلوب وشخصية فنية خاصان بها بتجربة جميع مجالات الفن، للفوز في مسابقات ومنح وإقامات فنية، ما يوسع دائرة المعارف الفنية والاستفادة من خبرات الفنانين السابقين، ولتحظى بالدعم والتشجيع داخل وخارج غزة للاستمرار في الإنتاج الفني، وفي منتصف الشهر الجاري ستقيم معرضها الخاص