كما توقعنا كانت الصورة المذلة والمخزية للمشاركين العرب في مؤتمر "وارسو", سقطت ورقة التوت عن عورة التطبيع والتنسيق الأمني لمنظومة العرب الرسمية مع كيان الاحتلال, كان إشهاراً لحالة زواج مغضوب عليها شعبياً, فلقد رافق هذا الإعلان حالة من السخط واللعن على امتداد القاعدة الجماهيرية العربية من المحيط إلى الخليج, لم يصفق لهذا الحدث الشاذ إلا أصحاب الأهواء المنسلخين من أي اعتبارات دينية أو وطنية أو قومية أو حتى إنسانية.
عرب الجاهلية كانوا يرددون "انصر أخاك ظالما أو مظلوما", وحتى عندما صحح النبي صلى الله عليه وسلم, كيف تكون النصرة للأخ الظالم, بقيت نصرته مظلوماً كموروث للأمة متشعب المشارب لا يمكن القفز عنه إلى حالة اصطفاف مع الظالم الأجنبي كالعدو الصهيوني, ضد الأخ المظلوم ممثلاً بالشعب الفلسطيني, حالة عدم الاتزان للسياسة العربية وتزايد الاضطراب في المواقف من القضايا العربية الثابتة, تدلل لنا أن جسد الأنظمة العربية أصابه الهُزال, وما حالة الإسهال التطبيعي الشديد الذي يضرب بعض مفاصله, إلا لفقدان مقومات المناعة الأصيلة النابعة من الموروث الديني والتاريخي للأمة, وللأسف استعاضت عن ذلك الموروث بمضادات خارجية لا تحمي ولا تقي من أي مخاطر, تُصرف عليها المليارات دون أن تحقق فائدة مجدية, تستنزف المال وتنخر في الجسد لصالح جراثيمها الخبيثة التي تغذي منظومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين.
من الهجمات المعادية تحت أضواء الكاميرات والتي استهدفت قضيتنا الوطنية, كان مؤتمر "مدريد" في العام 1991م , حققت من خلاله دولة الاحتلال اعترافاً عربياً, كان من إفرازات هذا المؤتمر توقيع اتفاقية "أوسلو" مع منظمة التحرير, وإبرام اتفاقية "وادي عربا" مع الأردن, إلى جانب عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والسياحية مع دول عربية, وافتتاح ممثليات اقتصادية ورعاية مصالح للاحتلال في عواصم عربية في المغرب العربي والخليج, سُجل تراجع خجول في حالة الانحدار التطبيعي نحو الكيان الصهيوني, بسبب اندلاع انتفاضة الأقصى, وما رافق ذلك من عدوان شرس شنه الاحتلال على شعبنا في مدن الضفة وقطاع غزة, ورغم تنكر الاحتلال لكل الاتفاقيات الموقعة, وإعلانه فشل أي حلول تفاوضية بشأن القضية الفلسطينية, وقد أمعن بالقتل والتهويد في عموم الأرض الفلسطينية, إلا أن العرب أصروا على المضي في طريق التطبيع مع الاحتلال الصهيوني, بتمسكهم بالمبادرة العربية في قمة بيروت 2002 على وقع العدوان الشرس في مخيم جنين آنذاك.
يأتي مؤتمر "وارسو" كهجمة موغلة في العداء, تُمهد للعدوان على الهوية الفلسطينية, وتصفية القضية الوطنية للشعب الفلسطيني, عبر المخطط الشيطاني "صفقة القرن" , فهذا المؤتمر أسقطت الأنظمة العربية أولوياتها المعلنة, وتراجعت عن شعاراتها المستهلكة تجاه القضية الفلسطينية, تبدلت العداوات فلم يعد الكيان الصهيوني عدوا, بل يُخطط له أن يكون شريكاً إستراتيجياً للأنظمة في حرب ضد عدوها المصطنع, في "وارسو" باعت الأنظمة ما تبقى لها من رصيد عند شعوبها وأمتها, فهي بكل تأكيد انحرفت عن المسلك العروبي والقومي والإسلامي وحطمت الإجماع العربي وخذلت مفاهيم الأمن القومي العربي, وهذا ما عبر عنه وزير خارجية البحرين في تصريحاته, بأن مواجهة التهديد الإيراني أهم من القضية الفلسطينية, من أين أتى بهذه الجرأة؟
المجاهرة بالمعصية تكون سببا لأن يستسيغها مرتكبها أو يتعايش معها, وقد تكون في مرحلة متقدمة محط افتخار ومباهاة, وهذا ما حدث لبعض المتحدثين الحكوميين في دول خليجية، حيث الإصرار على الخطيئة والعناد في الدفاع عنها, حتى أصبحنا نسمع صوتاً سياديا في الخليج كوزير خارجية الإمارات, الذي يبيح للكيان الصهيوني عمليات القتل والإبادة والعدوان في فلسطين, بحجة أن من حق (إسرائيل) الدفاع عن نفسها, ألا يعتبر ذلك تبريراً للعدوان الصهيوني في حروبه ضد الدول العربية؟ كيف وصل القوم إلى هذا الانحدار الأخلاقي والإسفاف في النظر لقضايا الأمة؟!
كيف نواجه ذلك التحول العلني الخطير في الموقف العربي الرسمي؟ حيث أصبحت المنظومة العربية الرسمية جزءًا من صفقة القرن الأمريكية, وتعمل على تنفيذ ذلك كما هو مرسوم لها في الخطة, علينا كفلسطينيين أهل القضية وملاك الأرض وصانعي تاريخها والمدافعين عن مستقبلها, أن نوحد جهودنا وأن نجمع قوتنا, في إطار المعركة المصيرية للدفاع عن هويتنا وجوهر قضيتنا, ومن أجل أن ذلك يجب العمل على تعزيز وحدتنا الوطنية وترسيخها فهي سلاحنا الأهم, ويلي ذلك فورا الانسحاب من أكذوبة السلام وأوهام التسوية, وسحب اعتراف منظمة التحرير رسميا بالكيان الصهيوني, ورفض المبادرة العربية للتسوية, وإعلان حالة النفير فلسطينيا وعربيا وإسلاميا, للدفاع عن فلسطين في كافة الميادين والصعد, ولنعيد الأمور إلى نصابها والقضية إلى جذورها, وليتحمل الجميع مسؤولياته في معركة التحرير والاستقلال.