"لقد أحضرناك هنا، وإياك أن تفكر أنك ستخرج من السجن على رجليك، سنعيدك إلى أهلك في كيس أسود"؛ ظل الأسير فضل شاهين واجمًا، وهو يسمع تهديدات ضابط إسرائيلي في أثناء التحقيق معه بعد اعتقاله والزج به خلف قضبان سجون الاحتلال.
لم يعتقد شاهين آنذاك أن هذه التهديدات ستجعله لاحقًا أحد ضحايا سياسة إدارة السجون في إهمال الأسرى الفلسطينيين طبيًّا، لكن الاحتلال بالفعل جعل منه قصة يرويها لصحيفة "فلسطين" نجله الوحيد صامد، وقد أصبح والده واحدًا من أكثر من 200 شهيد فلسطيني قضوا في سجون الاحتلال.
وأسر جيش الاحتلال شاهين (من سكان مدينة غزة) خلال مروره من حاجز "أبو هولي"، في جنوبي القطاع الساحلي، الذي دحر منه الاحتلال في أيلول (سبتمبر) 2005م.
ويقول صامد: "إن والدي كان يعاني مرض السكري عندما أسر في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 2004م، لكنه لم يكن يمثل خطرًا على حياته".
لكن بسبب انتهاكات إدارة السجون بحقه، والاعتداءات الجسدية عليه في أقبية التحقيق؛ لحقت به أمراض جديدة وصلت إلى حد انسداد الشريان التاجي، ما كان يحتم إجراء عملية جراحية حفاظًا على حياته، لكن دون جدوى.
ليس إلى هذا الحد فحسب، لقد طال شاهين الإهمال الطبي من إدارة السجون كالمعتاد.
في الجانب الآخر، وضعت ظروف الحياة صامد بين مطرقة الحرمان من الأب وسنديان متطلبات العيش وتحمل مسؤولياته تجاه والدته، ليجبر على العمل في عدة أشغال من صغره.
وكان صامد عندما أسر والده طفلًا يافعًا لم يتجاوز من عمره 11 عامًا، ولهذا يقول: "أسر والدي أوجد صعابًا كبيرة في حياتي، واجهت كثيرًا من المشاكل، أولاها الحرمان من الأب".
لكن الابن الأوحد لم يستسلم آنذاك للظروف الحياتية الصعبة اقتصاديًّا واجتماعيًّا بعد أسر والده، والحكم عليه بالسجن الفعلي مدة ثماني سنوات ونصف سنة في سجون الاحتلال.
وقد ظل سندًا لوالدته، التي لم تقصر في حقه يومًا حتى كبر وبات سندها الوحيد.
"أجبرتني الحياة على الكبر قبل الأوان، فأصبحت أعمل وأنا طفل لتوفير المال لاحتياجاتنا، ومساعدة أبي في السجن بما يلزم من مال" يضيف صامد.
وسط كل هذا كان يؤمن بشدة أنه سيرى والده مجددًا حرًّا خارج قضبان السجون، إلا أن الاحتلال أبى ذلك بإهمال الأسير طبيًّا حتى تدهورت حالته الصحية.
ويقول صامد: "بمرور الأيام تردت الحالة الصحية لوالدي، وصار لزامًا إجراء عمليات جراحية، لكن الاحتلال رفض ذلك ومارس الإهمال بحقه، ولم نترك جهة إلا ووجهنا مناشداتنا لها للضغط على الاحتلال للسماح بإجراء ما يلزم من عمليات جراحية له".
لكن كل هذا لم يشفع لشاهين عند الاحتلال، حتى تسبب الإهمال الطبي باستشهاده في 29 شباط (فبراير) 2008م، بعدما قضى في السجن أربع سنوات عانى خلالها انتهاكات إدارة السجون.
ويقول نجل الأسير الشهيد: "إن رحيل والدي كان فاجعة كبرى للعائلة، لقد قتلوه عمدًا في السجون"، وما زالت تهديدات ضابط التحقيق الذي توعد بإعادته بكيس أسود حاضرة في ذهنه.
ويضيف: "بالفعل أعادوا جثة والدي بكيس أسود، بعدما سرقوا أعضاء منه".
صامد الذي يبلغ من العمر الآن 26 عامًا استطاع تجاوز عقبات الحياة، وتكوين أسرة صغيرة، قوامها والدته، وزوجته، وابنان: أكبرهما يحمل اسم والده فضل (ستة أعوام)، والآخر زين الدين (أربعة أعوام)، وابنته باسمة ذات العام الواحد.
ويؤكد أنه لن ينسى قضية والده والأسرى الذين استشهدوا في سجون الاحتلال بسبب الانتهاكات والإهمال الطبي، وما مر به والمعاناة التي تسبب بها الاحتلال لأسرته.
وبالأمس القريب اصطحب صامد أحد أبنائه إلى عيادة طبية بغزة إثر حالة مرضية ألمَّت به، لكنه في السابق لم يستطع مرافقة والده المريض بسبب أسره، ويقول: "لو كان والدي بيننا لوضعته في عيوني من جوا".
لكن في الحقيقة لم يبقَ من الأسير فضل شاهين سوى ذكريات قديمة، قضاها بين أسرته قبل أسره واستشهاده.