فلسطين أون لاين

"المناطقيةُ".. مصارحاتٌ في الصميم


لا يزال العربُ ذوي بأوٍ وافتخار؛ يأبون الذلَّ ويرونه حرامًا، ويختارون الموت إذا سيموا خسْفًا واعتسافًا، وهم -جاهليةً وإسلامًا- صنعتُهم معرفةُ الأنساب ومناحيها، ويحسبون بالأحساب ومباهيها، حتى إنّهم بالإسلام العظيم الذي أعاد "فرمتة" عقولهم وقلوبهم لتوافق مراد الشارع الحكيم، ولا يجدوا في أنفسهم حرجًا من قضائه ويسلّموا تسليمًا، إلا أنّ أعمالهم وفق الأصول والفروع انتقلت معهم، ولم يستطيعوا التخلص من الطعن في الأنساب والفخر في الأحساب تخلصًا تامًّا، حتى ترى خلافًا تافهًا يوم كَسَع [ضربه من خلفٍ] رجلٌ من المهاجرين أنصاريًّا رضوان الله عليهم أجمعين، يثير النفوس التي هذّبها الإسلامُ ووجودُ النبيّ العظيم، فتتحرك العصبية الكامنة من عُبِّيّة الجاهلية ليستدعيَ الأنصاريُّ جماعة الأنصار كلِّهم فيسارع المهاجريُّ بمناداة أنصاره من المهاجرين! فينبري النبيُّ عليه الصلاة والسلام بشدّة ليطفئ هذه النار في مهدها ويطعنَ الشيطان بخنجرٍ من "وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ"، ويصِمها بصوته الجهْوريّ بـ(دعوى الجاهلية)، ويربطها شرطيًّا بالرائحة المنتنة، ويزجرهم بـ(دعوها) التي يمتد بها صوتُه كأنه يرعد ويزأر، فكأنّ الناس أعيدت برمجتهم من جديد؛ فقد ثبت الحقُّ، وزهق الباطل، وثبت التوفيق، ونفعت الذكرى.

******

وهذا وإن كان معروفًا إلا أنّه يقودنا إلى واقعنا العربيّ الحالي بتسليط النظر على مسألة هي من هذه الرواسب التي لن تغادرَنا -نحن العربَ- بنصّ النبوءة النبوية، فلا تكاد ترى بلدًا إلا وبعضُ أهله يشعرون بفوقية خفيّة تظهر في لحن الأقوال والنظرات، وخفيّ الكتابات والمقالات، وبين سطور التعاملات والتمييزات، وإن لم تكن مسنونةً بقانون أو مسوّدةً في رسميّات، بل وتجد التندّر والتفكّه بأحوال بعض مناطقَ على مناطق أخرى، حتى إنك لتجد الغارات والصواعق والأكاذيب المخترعة والأفائك المختلقة يرضِعها بعضهم لأبنائهم، وليس شرطًا أن يكون مباشرة؛ بل فيما يسمعون في الأسمار والنوادي، ما يثبّتها في الوجدان حقيقةً واقعةً، وهي الكذبُ والسراب. وتصوّر أن دولةً تسمح فيها بمسرحيات وأفلام ومسلسلات يتطاول فيها بعضُ أبنائها على آخرين فيها؛ لأنهم يسكنون صعيدًا أو جنوبًا، ويسمونهم على "خرطومهم" بالتخلّف وعدم التمدّن والتحضّر، كما أنشؤوا في لاشعورِ كثيرين العلاقة السيئة بحتمية بين الحماة والكنّة، ونظائر ذلك موجودة.!!

******

فإذا ما انتقلنا إلى واقعنا الفلسطيني رأينا من ذلك أشكالًا قِدَدًا، وطرائق عدَدًا؛ بين شمال وجنوب، وبدويّ وفلاح، ومواطن ولاجئ أو مهاجر، وأبناء البلد الفلانيّ والبلدة العلانية، حتى إنك لتجد في المنطقة الواحدة تجنيًّا من جزئها على أحد أجزائها الأخرى، ويمتد ذلك لتراها في تقسيمات القبيلة الواحدة، بل والعشيرة الواحدة، وأحيانًا العائلة الواحدة؛ فهذا الفرع الذهبيّ، وذاك الفضّي، والثالث نحاسيّ، أما الرابع فحجريّ، كأنّها تقليبات البراهمة والشُّودَر، في طبقية مقيتة وعصبية منتنة لا تنتسب إلى التفاضل بالتقوى، ولا التمايز بالعلم، ولا التصنيف بالأخلاق، وكأنّها هتلريّة جَذَعة تحيي تمجيد العرق الآري، أو يهودية مستترة تقسمهم إلى مختارين وأغيار "غوييم".!

وقد كنتُ وكثيرون شهودًا على هذه المزايلات الحادّة، حتى إنك ليقرع آذانَك قولُ فلانٍ ذي الشنب والعباءة: هؤلاء ليسوا "منسبَنا"، وفلانٌ صالحٌ لكن ليس من مستوانا الحسبيّ، وثالثٌ يضخّم "أناه" حتى لا يرى فلانًا لأنه من بلد كذا جديرًا بمصاهرته، بل سمعتُ أتعس -بأمّ أذني وأبيها- يقول: أنا لا يمكن أن آخذ إلا من بلدي "ومن طينة بلادك ليّس ع أخدادك" [بالمناسبة: بالهنا والشفا!]، لدرجة أنني كنتُ أرى فيما أزعم أنّي أبحث عنه أنّ فلانًا إذا سُئل عن بلده غزت الحمرةُ وجنتيه وبدا التهدّج في صوته واضحًا وهو يقولُها، أما فلانٌ فيفتخر، ويتنقّص من فلان وعلان وبلديْهما، بل إنك تجد أنّ "أفلامًا هندية" ألصقت على مذهب التنقّص لا الذكر التاريخي ببلد كذا وكذا، فترى "أصحاب العِرق الشريف والممشى النظيف والقوام اللطيف" يردّدونها باستهزاء وازدراء، واستحقار واستخفاف، حتى يتوارى فلانٌ خجلًا مما يُقال، وما أكثر خطأَه إذ لم يبادر بتذكيرهم بدينهم، وردّهم إليه ردًّا جميلًا.

******

ومن أجلِ ذلك أقرّ فينا الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ "مَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ"؛ فما الافتخار إلا بالدين والخلُق، وماذا أفعل بنسبٍ شريف لرجل لا يحترم بنتي، ولا يتعامل بلطف مع أختي، ولا يرى قريبتي إلا متاعًا من بيته، ونحن نبحث عن الراحة والسعادة مظانَّها، أم هي "بهرجة" التفاخر الزائف أمام أقارب وصحب لن يرى منهم صاحبُنا عند إشكال محتمَل مع أخلاق "ضاربة" شيئًا، ولن يسمع منهم رِكزًا.!

******