منذ أن بدأ الحديث عن نية أمريكية في فرض وقائع جديدة في الشرق الأوسط، أُطلق عليها اسم صفقة القرن، وبعد اتضاح بعض معالمها، سواء أكانت صفقة أم توجهات عملية على الأرض، أبدت السلطة الفلسطينية رفضها للمساعي الأمريكية، ورفعت الصوت عالياً في وجه ترمب بعد قراره نقل السفارة الأمريكية للقدس.
أمام هذه الخطوة الخطيرة، كان من المتوقع أن تذهب السلطة الفلسطينية بعيداً في المصالحة الفلسطينية، الأمر الذي لم يكن، بل على العكس من ذلك، فقد بدأت ملامح الانقسام المتمترس في أرضه، تتحرك لكن باتجاه انفصال كامل ما بين جناحي الوطن.
ما بين التصريح والسلوك على الأرض، يجد المتابع نفسه أمام حقيقة أنّ السلطة الفلسطينية، تُساهم بشكل فعّال في تمرير ذلك الانفصال، الذي سيكون حجر الأساس في تطبيق الرؤية الأمريكية، التي ستحول غزة إلى دويلة، وستجعل من الضفة أشلاء ممزقة تحت مسمى سلطة أو حكم ذاتي.
قد يكون من الصعوبة بمكان الحكم على النوايا، ففي الوقت الذي رحب فيه الجميع برفض السلطة لصفقة القرن، فإنّ الجميع بات يُشكك بأنّ ممارساتها على الأرض، بالفعل تُساهم بهذا الاتجاه، سواء قصدت السلطة ذلك أم لم تقصد، لكنّها تُقدم خدمة عظيمة للرؤية الأمريكية، التي سيكون لظاها الأشد موجهاً للضفة الغربية، مكان وجود السلطة الفلسطينية.
إنّ ما ذهبت إليه السلطة الفلسطينية أخيراً، بالاستمرار في سلسلة قطع رواتب الموظفين العموميين في غزة، هو بالتأكيد لن يكون إلّا في اتجاه المزيد من الضغط على غزة، ليس باتجاه تحقيق المصالحة الفلسطينية، التي بات من المعلوم أنّ أطرافاً دولية وإقليمية وبما في ذلك (إسرائيل) ستمنع تحققها، بل باتجاه أن تتحمل غزة عبء نفسها بنفسها، وهو أحد المحركات الرئيسة لتبدأ سلطة غزة، فهم الواقع الجديد، الذي يُحتم عليها العمل بشكل منفرد، لتحقيق اتفاقات وتفاهمات تُفضي لتكون غزة المسؤولة عن معابرها وجباية مقاصتها، وبالتالي الوصول إلى حلول تلبي الطموح الإسرائيلي، بدويلتين فلسطينيتين، لشعب واحد مشتت في أصقاع الأرض.
قبل نحو شهرين من الآن، قرأت لعضو الكنيست عوفير شلح، مقالاً مهما حيال الرؤية الإسرائيلية للتغيرات في المنطقة، عند تعليقه على نية الولايات المتحدة سحب قوّاتها من سوريا، أشار إلى أنّ الولايات المتحدة تجاهلت مصلحتها أمام المصلحة الإسرائيلية، وأكد أنّ (إسرائيل) تعي ذلك، بما في ذلك رئيس وزرائها، لكنّه لا يملك ما يستطيع تغيير اتجاه رياح هذا القرار الأمريكي.
فإذا كانت (إسرائيل) التي تحظى بهذا القرب الكبير من صانع القرار الأمريكي، والتي تُعتبر ربيبتها في المنطقة، لم تستطع أن تُسيّر الرياح كلّها وفق رغباتها، فإنّ الطالع ينبئ أنّنا أمام مجزرة قادمة أكثر ضراوة بحق القضية الفلسطينية، ليس من حق من ساهم فيها أن يصرخ رافضاً لها، وأن يتباكى على أطلالها.
إنّ السوك العام في الإقليم والمنطقة، لم يعد يعر أي اهتمام للواقع الفلسطيني في الضفة الغربية، بل إنّ مسيرة التطبيع، وغض الطرف عن الاستيطان، وتهويد القدس والمقدسات الفلسطينية، فقد وقعه في آذان من صدّعوا رؤوسنا داعمين لنا ولحقنا الشرعي، في أرضنا ومقدساتنا، مدينين الاستيطان ورافضين العلاقة مع الاحتلال، إلّا بحل عادل لأقدس قضايا الأرض.
أمام تغييرات كبيرة، تمثلت قبل كل شيء، بمجيء رئيس أمريكي صريح لحد الوقاحة، فهو فقد الدبلوماسية في التعامل، لن يطلب من العرب عطايا بالأدب الأمريكي المعروف، ولم يعد ينصحهم بضرورة التطبيع مع الاحتلال، بل بات يعد ذلك حقّا طبيعيا، فقد أظهر سطوة السيد تجاه العبيد، الذين لن يستطيعوا قول لا.
إنّ السلطة الفلسطينية، في ظل الواقع الصعب المتردي، وفي ظل بلع ما تبقى من القضية الفلسطينية، عليها أن تلتحم بشعبها أكثر، وأن تكون أكثر صراحة معه، ولن أقول عليها بالذهاب بمصالحة مع الشق الآخر في الوطن، لأنّ ذلك بات يبدو مستحيلاً.
ختاماً، لن تكون السلطة الفلسطينية لقمة صعبة المنال إسرائيليا، ورغم مرونتها التي تُبديها، وحرصها الكبير على اتفاقات الأمن والسلام مع (إسرائيل)، فإنّ عودة اليمين في الانتخابات القادمة، وهو المرجح بالتأكيد، سيُساهم في زيادة تغلغل الفكر الذي يُريد التخلص منها، وإعادة الحكم الإسرائيلي للضفة الغربية، لربما بوجود سلطة تقبل على نفسها، أن تكون شبه إدارات محلية، تحمل عبء الاحتلال وليس أكثر.