لا شك أن القضية الرئيسة التي تتصدر الشارع الفلسطيني هي حديث الساعة حول استقالة حكومة الحمد الله وشكل الحكومة القادمة رغم حالة اللامبالاة التي تسيطر على قطاعات واسعة من شعبنا بسبب انعدام الأفق السياسي، والإحباط الناجم عن عدم القدرة على إنهاء الانقسام واستمرار المناكفة بين طرفي الانقسام، والحرب الشعواء التي يشنها الاحتلال ضد القيادة الوطنية للشعب الفلسطيني، وتعاظم الهجمة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية وعلى رأسها القدس التي تشهد هجوما شرسا يستهدف الأرض والمقدسات والإنسان والحياة بكل جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والسياسية.
لم تتطرق إلى الحديث عن من سيرأس الحكومة ولا من سيشارك فيها، وللعلم حتى إلى هذه اللحظة التي أتممت فيها مقالي هذا، لم يكلف الرئيس محمود عباس أحداً لتشكيل الحكومة، ويبدو أنه لم يحسم أمره بعد، وتردد الرئيس إذا استمر قد يؤخر تشكيل الحكومة أسابيع وربما أشهرًا، في حين يعتبر البعض الآخر أن تسريبات القوائم وكثرتها هو تعبير عن "حيوية" الفلسطينيين وانغماسهم في السياسة من رؤوسهم وحتى أخمص أقدامهم، فالكثير يشغل باله بالحديث حول رئيس الحكومة والوزراء، ولا يتطرق تقريبًا على الإطلاق إلى برنامج الحكومة السياسي والاقتصادي وخطتها لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، إلخ.
السؤال الذي يشغل بال كل مواطن، كيف ستشكل حكومة فصائلية -كما يريدها الرئيس- بعد أن حل المجلس التشريعي، الذي يعتبر الجهة القانونية والدستورية المراقبة لأدائها؟! الحقيقة أن معضلة المجلس التشريعي الفلسطيني ليست جديدة، فمنذ الانقسام عام 2007 لم يعد لدينا برلمان يراقب الحكومة أو يسائلها، وبالعكس فقد استحوذت الحكومة على الصلاحيات التشريعية للبرلمان بما في ذلك مناقشة الميزانية وإقرارها وكذلك سن القوانين، في غياب من يمثل المعارضة والذي يستطيع التأثير في صياغة القوانين وتحقيق التوازن بين ما تريده الحكومة كسلطة تنفيذية وما يريده البرلمان كممثل لمصالح الشعب. ولا بد في غياب السلطة التشريعية والاستقواء على اختصاصاتها أن تجد الحكومة نفسها تعمل في ظل ظروف غير طبيعية حيث إن عليها أن تعمل كحكومة وأن تحاسب نفسها كبرلمان وفي هذا إخلال بمبدأ فصل السلطات إضافة إلى تناقض المصالح بين من يعمل ومن يراقب.
المتعارف عليه في كل دساتير دول العالم بما فيه الدستور الفلسطيني أن السلطة التشريعية المراقبة على السلطة التنفيذية، لذلك الرقابة والمساءلة البرلمانية تكون أكثر فعالية وقدرة على تصويب الأداء لا سيما حين تكون هناك معارضة نشطة داخل البرلمان تقف للحكومة بالمرصاد تحصي عليها أخطاءها بنفس القدر الذي تحترم وتقيم إنجازاتها، وهذ ليس عيبا ولا حراما فالمعارضة في البرلمان هي ظاهرة إيجابية صحية وضرورة حتمية تصب في مصلحة الشعب وترفع من نسبة نجاح الحكومة في أن تكون على مستوى المسؤولية التي أنيطت بها والتوقعات التي يريدها الشعب منها. فالفكرة الأساسية هي أن الشعب هو صاحب القرار وصاحب الأمانة يوكلها لمن يشاء وأنه حين يتوجه إلى صناديق الاقتراع يختار الحزب أو الأحزاب أو الأشخاص الذين يتوقع منهم أن يحسنوا التصرف ويقوموا بخدمته على الوجه الأفضل. ويبقى الشعب الذي اختار الأكثرية التي شكلت الحكومة هو صاحب القرار فإذا أحسنت الأداء أعاد انتخابها وإن أساءت الأداء أو خيبت ظنه استبدلها بحكومة أخرى، كل ذلك من خلال صناديق الاقتراع وعملا بمبدأ التداول السلمي للسلطة، وحق الشعب في اختيار من يظن أنه الأصلح.
نحن أمام جملة من الأسئلة المبهمة تتعلق بمستقبلنا السياسي القانوني فبعد ذهاب الحكومة الحالية، هل سيتم تشكيل حكومة تعمل في ظل نفس الظروف والفراغ الدستوري وهو غياب السلطة التشريعية وتناقض المصالح؟ وهل ستكون الحكومة القادمة هي حكومة من لون واحد أم ستضم كل ألوان قوس قزح السياسي الفلسطيني؟ وما طبيعة عملها وبرنامجها السياسي والمهم من الرقيب عليها؟ هل سيستبدل المجلس التشريعي بمجلس مثيل له من منظمة التحرير، ام يسند الامر للمجلس المركزي؟ وأهم من هذا وذاك، كم عمر هذه الحكومة؟ وهل ستأخذنا انتخابات تعيد الأمانة للشعب ليختار من يمثله؟
حتى لو تحققت كل هذه الأمنيات فلا يمكن الاستغناء عن الجهة دستورية مراقبة لأي حكومة حالية أو لاحقة، وإلا سيكون مصيرها مرهون بالفشل لأن الرقابة والمساءلة البرلمانية تؤدي عادة إلى تحسين أداء الحكومة من خلال التزامها بالقوانين وتوخيها حسن الأداء وسعيها إلى تحقيق البرنامج الذي شُكلت على أساسه، لأنها تعمل تحت الشعور بأن هناك من يراقب أداءها وسوف يحاسبها إن لم تحسن الأداء. فالرقابة البرلمانية الفاعلة هي من أهم الوسائل التي تجعل الحكومات تبذل قصارى جهودها للصمود أمام الاختبار حين تقف أمام البرلمان.
ولا شك بأن حكومة تعمل دون مساءلة برلمانية سرعان ما ستجد نفسها تعمل في حالة استرخاء وترهل فبينما تجد بعض أعضائها يجدون ويكدون في العمل لأن روح العمل هي من طبيعتهم الشخصية تجد آخرين انصرفوا للانشغال في المظاهر وفي السعي نحو الكسب غير المشروع واتسم أداؤهم بالسوء. وهذا أمر عام ينطبق على أي حكومة تعمل دون رقابة ومساءلة برلمانية في أي مكان في العالم.
وحتى لا اطيل المخرج الوحيد من هذا الفراغ الدستوري هو الرجوع إلى صندوق الاقتراع وكما يقول المثل "المي بتكذب الغطاس"، بإجراء انتخابات حرة ونزيهة تشريعية ورئاسية حسبما ينص القانون الأساسي وقانون الانتخابات تحت إشراف محايد لتجديد شرعية البرلمان والرئيس ومن ثم الانطلاق نحو تجديد مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية من خلال الانتخابات حيثما أمكن أو بالأساليب التي كانت متبعة في الماضي حيث لا يمكن أن تجرى الانتخابات والتوافق على برنامج وطني موحد لمواجهة التحديات التي تعصف بنا من كل حدب وصوب.