للحظة الأولى تمنى الشاب أحمد سعد لو أن الأرض انشقت وابتلعته، واكتفى بالوقوف مواريًا نفسه خلف باب غرفته، عندما طلب نجله الأكبر سلامة البالغ تسعة أعوام مصروفه اليومي الذي لا يزيد على شيقل واحد، قبل ذهابه إلى المدرسة.
ولأن سعد لم يكن بجيبه ذلك الشيقل؛ فضل عدم رؤية نجله صباح ذلك اليوم من الأسبوع الماضي.
في تلك اللحظة كانت الأم تتحدث إلى سلامة، محاولة إقناعه أن والده نائمًا الآن، ولا يريد إزعاجًا من أحد، وعندها سأل الطفل والدته عن السبب الذي يتيح لغيره من الأطفال امتلاك ذلك الشيقل، في حين بات لا يحمله هو دائمًا.
بقيت الأم ساكتة لحظتها، وتركها سلامة بدموع حارة ذرفت على خديه.
وكان الأب يسمع حوار نجله جيدًا، وقلبه ينفطر ألمًا و"يتقطع من جوا" كما يقول الشاب البالغ (34) عامًا.
هذا الحال لا يقتصر على الطفل سلامة، بل إن الموقف ذاته يتكرر دائمًا مع شقيقته التوأم قمر (تسعة أعوام)، وشقيقهما محمد (ثمانية أعوام)، وملك (خمسة أعوام).
وللسنة الـ12 على التوالي لم يتسلم سعد راتبه من السلطة، التي عمل لدى أحد أجهزتها الأمنية بغزة، أكثر من عام ونصف قبل منتصف 2007م.
ويبين سعد لصحيفة "فلسطين" أن قطع راتبه وعدم امتلاكه مصدر دخل آخر انعكسا عليه وعلى عائلته سلبًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان ذلك السبب الرئيس أن يعيش هو وزوجته وأطفاله الأربعة في غرفة واحدة ببيت العائلة في حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة.
ويضيف الشاب ذو القامة الفارعة، والكتفين العريضتين: "لو توافرت لي الإمكانات المناسبة لصنعت حياة أفضل من التي يعيشها أبنائي، لكن قطع الراتب حال تمامًا دون ذلك".
ليس ذلك فحسب، فهو لم يعد قادرًا على توفير احتياجاتهم اليومية، وأصبحت أسرته تعيش على المساعدات الغذائية، وما يقدمه المتبرعون.
واضطر يومًا ما إلى اصطحاب أطفاله إلى البحر انطلاقًا من بيته في الشجاعية، سيرًا على الأقدام، من شرق غزة إلى غربها، لأنه لم يكن يملك أجرة الطريق.
"ألح أبنائي عليَّ كثيرًا برحلة قصيرة، فأخذتهم إلى البحر مشيًا" يتابع سعد بعينين دامعتين واصفًا حال أطفاله الأربعة.
ويستدرك: "أريد أن أمنحهم كل شيء، لكني لست قادرًا على ذلك لأن راتبي مقطوع، وبات أطفالي محرومين أشياء كثيرة".
ويلفت إلى أنه منذ قطع راتبه لم يترك مسؤولًا أو قياديًّا في حركة فتح والسلطة إلا وشرح أمامه معاناته كاملة، وقدم الدلائل الكافية لهم على انتمائه لهذه الحركة التي يرأسها رئيس السلطة محمود عباس، الذي بات سعد بحاجة إلى قرار منه حتى يُستأنف صرف مستحقاته المالية وراتبه من جديد.
وكانت السلطة قطعت رواتب عدد كبير من موظفيها بغزة المدنيين والأمنيين (يزيد تعدادهم على 60 ألفًا)، بعد أحداث حزيران (يونيو) 2007م، واستأنفت صرفها لبعض، وما زال آخرون لم يتقاضوها منذ ذلك الحين.
ويشير سعد إلى أنه يعيش على أمل استئناف صرف راتبه ومستحقاته المالية من السلطة، التي لم يتقاضَها منذ سنوات طويلة.
وسعد ليس الوحيد الذي أصبح دون راتب، إذ قررت السلطة أخيرًا قطع رواتب المئات من موظفيها في غزة بحجة انتمائهم للتيار الإصلاحي في حركة فتح، الذي يقوده القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان، وأجبرت آلاف الموظفين المدنيين والأمنيين على التقاعد وفق قانون أقره عباس للتقاعد الإجباري.
وتزامن هذا وسلسلة إجراءات عقابية تفرضها السلطة منذ آذار (مارس) 2017م، كان لها عواقب خطيرة على الأوضاع الإنسانية في القطاع الساحلي المحاصر إسرائيليًّا منذ ما يزيد على 13 سنة مضت.