"كل بداية صعبة"، وبداية صاحب هذه القصة ليست صعبة فقط، بل كانت كالذي يحفر بالصخر تماما، فتجمعت أمامه صخور وعقبات، غير أنه جعل من كل صخرة ومحطة صعبة منفذا للسير نحو الأمام.
من بوابة التميز والإبداع، تدخل صحيفة "فلسطين" إلى سيرة صاحب هذه القصة أ. د ناهض صبحي فورة (56 عاما)، تلخص المراحل العلمية والجوائز العربية والدولية التي حصل عليها، بعد أن بدأ حياته بائعا متجولا (كانت حينها الفرصة الوحيدة أمامه كي يكمل دراسته).
تفوق وعقبة
محطات قاسية عصفت بـ "فورة"، لكن الجميل في قصته أنه جعل من كل محطة منفذا للنجاح، عام 1980م تفوق في الثانوية العامة "الفرع العلمي" بتقدير 84% وكان من الأوائل على القطاع، وحصل وقتها الأول على تقدير 86%، لكن ظروف عائلته الاقتصادية حالت بينه وبين الكليات العلمية.
يغوص في أعماق ذاكرته مستذكرا تلك الحقبة: اضطررت للالتحاق بكلية الآداب لغة عربية، وكنت من أوائل الطلبة في الجامعة الإسلامية بغزة، وحصلت على اعفاء كامل خلال دراستي الجامعية لمدة أربع سنوات.
تخرج فورة عام 1985م، لكنه اصطدم بعقبة عدم الاعتراف بالجامعة في عهد الاحتلال الإسرائيلي، هل يستسلم للواقع ويبقى جالسا في بيته؟ اتخذ قرارًا صعبا، قاسيا، مؤلما لطالب متفوق، لكنه يدرس للأجيال في مدرسة الحياة، فعمل بائعا متجولا للمأكولات الشعبية (فلافل) على عربة متنقلة يسير بها من منزله في حي الزيتون جنوب مدينة غزة إلى موقف "الشجاعية" وهو موقف للعمال الفلسطينيين الذين كانوا يعملون داخل الأراضي المحتلة آنذاك.
يفتخر بنفسه وبعمله الأول: "كنت أتنافس مع زملائي المتفرغين للدراسة رغم عملي الشاق يوميا من الساعة الثانية فجرا إلى السادسة صباحا، كي أبيع العمال، حتى أن الجامعة أجرت معي مقابلة صحفية حينها، وعنونت المقابلة: طالب يعمل ويتفوق".
كيف كان يدرس؟ .. (ربما هذا السؤال يخطر ببالنا جميعا) يجيب فورة أنه كان يستغل دوامه في الجامعة لتحقيق ثلاثة أهداف، الأول: تخصيص وقت لقراءة الكتب والمذاكرة بمكتبة الجامعة، والثاني: الاطلاع على الكتب التي يلتمس حاجته إليها، ومراجعة ما يقرأه، والهدف الثالث: التطوع في مجلس الطلبة للمحافظة على المنحة المالية التي يرفدوها لي، بتوفير بعض الاحتياجات اللوجستية.
ليس وحده من قدر نفسه، بل راعت الجامعة ظروفه، فأصدر رئيس الجامعة حينها أ. د محمد صيام مرسوما بمراعاته، يناديه رئيس الجامعة مرارا: "يا من تحفر بالصخر كي تفجر منها علما"، واستمر في هذا العمل الشاق ما بين عامي (1980-1995م).
وبدأ حصاد الزرع الذي نبت في عقله وحان وقت تفجره، عام 1991م التحق "فورة" في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وعمل خطيبا وإماما، وقرر دراسة الماجستير تربية لغة عربية.
تحقيق الأمنية
وكان على "فورة" دراسة دبلوم تربية خلال الفترة ما بين عامي (1991-1993)، ودبلوم آخر عام (1993-1994م) كونه درس آداب لغة عربية، حتى يستطيع تحقيق أمنيته بأن يكون معلما، وحصل في الدبلومين على درجة امتياز، وكل ذلك بالتزامن مع عمله على عربة "المأكولات الشعبية".
ومنذ إعلان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عقب قدوم السلطة، أنه يحق لأوائل الطلبة الالتحاق ببرنامجي الماجستير والدكتوراه في جامعة عين شمس بمصر، يقول فورة: درست بكلية التربية تخصص (معلم صف) وكنت الأول على دفعتي، وكانت رسالتي أول رسالة تناقش بمصر بعنوان "استراتيجيات المذاكرة لدى طلبة الجامعة الإسلامية بغزة وعلاقتها بالتحصيل".
صدر مرسوم آخر من الرئيس عرفات بتسجيله بالدكتوراه مجانا، والتحق بالجامعة المصرية، فكانت رسالته عام 2000م لأول مرة على مستوى الوطن العربي موثقة بالإفادات والشهادات بعنوان "برنامج مقترح لعلاج صعوبات تعلم القراءة للمرحلة الابتدائية بالمدارس الفلسطينية بغزة".
حتى في رحلة العلم كتب على "فورة" المشقة والتعب كونه كان يبحث دوما عن التفوق لا يرضى بأقل من درجة الامتياز، يتوقف عند تلك الرسالة قائلا: "أرهقت في إعدادها وعانيت كثيرا من عدم وجود مراجع وكتب حول صعوبات التعلم، وكانت هناك صعوبة جمة في الحصول على المعلومات الإلكترونية – فهي ليست متوفرة كما نعيش اليوم – كنا نسافر للدول العربية للحصول على مصدر هنا أو هناك".
وحصل "فورة" على الامتياز آنذاك، وكرمه وزير التربية والتعليم المصري ومنحه شهادة الدكتوراه، وصدر قرار بتعيينه في جامعة الأقصى.
"الإيسيسكو" وجائزتان
أعلنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) جائزة محو الأمية، فاجتهد "فورة" بعمل بحث مرهق وطويل وشاق بعنوان "كيف نمحو الأمية بالقرآن الكريم والسنة؟" فحصل على جائزة "الإيسيسكو" على مستوى الجامعات الفلسطينية والعربية والإسلامية وكان البحث بالاشتراك مع الدكتور طلال خلف عام 2012م.
واستمر العطاء في الجوائز الدولية وحصل عام 2013م، على النجمة الثانية بفوزه بجائزة نظمتها دولة قطر، وقدم بحثا بعنوان "كيف نعلم القرآن الكريم تدبرا في الجامعات الفلسطينية".
كيف تعلمون القرآن وأنتم تحت احتلال إسرائيلي؟ .. سؤال وجهه أحد الحاضرين لـ"فورة" لحظة استلامه الجائزة، فقال له: "القرآن يعلم حتى في السجون"، تعجب السائل: كيف؟ مضيفا: "أنتم تزاودون كثيرا يا أهل غزة"، فأجابه فورة قبل استلام جائزته: "القادة والعلماء يتخرجون ويتسلحون في حفظ القرآن حتى في السجن، فما بالك عندما تكون عقيدة (..) أنتم تتباهون بالمال ونحن نتباهى في كل بيت بمن يحفظ القرآن".
الجائزة الثالثة كانت من الأردن، عقب تقديمه بحثا حول نظم الدراسة بعنوان "كيف نعمق ثقافة القدس في المنهاج الفلسطيني؟"، وكانت دراسة نوعية في ضوء المنهاج الفلسطيني الجديدالتي ساعدت واضعي المنهاج في غرس ثقافة القدس في المرحلة الأساسية الدنيا والعليا.
يتفاجأفورة -خلال تسلمه الجائزة بالأردن- برؤية أستاذه الدكتور محمد صيام، "لم أعرفه من عوامل الشيخوخة .. وقال جملة أبكتني والحضور: ألم أقل لك ستكون علما من أعلام فلسطين وأنت من حفرت بالصخر"، وقبل يد معلمه إذ كانت علامة فارقة فيمن يتنبأ ويتوقع، تسلم فورة الجائزة وعيونه تذرف.
كتب ومؤلفات
قامت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "يونسكو" بطباعة كتاب ألفه "فورة" بالشراكة مع الدكتور طلال خلف تحت عنوان "دور العلماء في الدفاع عن القدس وفلسطين" وتناول الحديث عن ستة علماء من أعلام فلسطين، وهم الشيخ: أحمد ياسين، ورائد صلاح، وعكرمة صبري، ود. يوسف جمعة سلامة، وعز الدين القسام، ومحمد أمين الحسيني.
"استراتيجية تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية" كتاب أصدره "فورة"، فضلا عن كتاب طبعته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وهو لأول مرة يصدر خاص بمنهاج رياض الأطفال اسمه "لغتي الشريفة"، وتبنته وزارة التربية والتعليم كمنهاج في عام 2016م، وكتاب "الدراما ومسرحة المنهاج" في ضوء الرؤية الجديدة للمناهج الفلسطينية.
صاحب هذه الحكاية التي بدأت بمشقة (ربما كانت ستنتهي لو استسلم للواقع) شغل مناصب كثيرة منها نائب عميد الدراسات العليا في جامعة الأقصى،ونائب رئيس لجنة الكتاب الجامعي على مستوى فلسطين، إلى أن حصل على رتبة أستاذ مشارك بالمنهاج وطرق تدريس اللغة العربية، والآن مرشح لإكمال المدة الزمنية لمنحه درجة أستاذ دكتور في المنهاج واللغة العربية.
أصدر فورة 21 بحثا، منها بحث بعنوان "الطرائق والأساليب المستنبطة من ديوان الإمام الشافعي وآلية تدريسه في المدارس الفلسطينية".
وسبق أن أنشأ روضة "رواد الغد" وحازت على مراكز متقدمة على مستوى فلسطين ومصر وقطر والأردن، واتبعها بروضة "هبة الله" وكانت وصية من والده، إضافة إلى إنشاء مركز الصحوة التعليمي، وجمعية الزيتون للتدريب والريادة، ومكتب للسياحة والسفر، وآخر للتاكسيات (نقل ركاب).
انعكس ذلك على حياته الاقتصادية فبعد أن كان المعيل الأول لأسرته كونه الوحيد (تزوج وهو في المرحلة الثانوية بالصف الثاني عشر)، اشترى منزلا وعقارا وأصبح وضعه الاقتصادي أفضل.
"وفورة" لديه 10 من الأبناء نصفهم ذكور، يدرسون ويعملون بالجامعات الفلسطينية ومنهم مدرسون، وسر ذلك؟.. يختم قائلا: "طاعة المولى، ورضا الوالدين، والرضا بحكم السماء والصبر على البلاء، وهي ثلاثة مفاتيح لفتح الأبواب المغلقة".