لا يشبهه من الرؤساء الأمريكيين السابقين أحدٌ، ولم يسبقه إلى مواقفه التي اتخذها تجاه الكيان الصهيوني من قبل أحدٌ غيره، فقد سبق الجميع بأشواط كثيرة، وتجرأ على سلفه كلهم، وما ترك شيئًا من بعده لخلفه يقومون به، ويمتازون بسببه من غيرهم، ويفاخرون به سواهم، ويتزلفون به إلى الكيان الصهيوني، ويتاجرون به في الأصوات اليهودية الأمريكية واليمين المسيحي المؤيد لهم، والحريص على أمن وسلامة كيانهم، مع أن السابقين لم يقصروا في إبداء الولاء وإظهار التأييد لهم، لكنه عنهم يختلف، وما كان للإسرائيليين ليحلموا يومًا بنصيرٍ لهم مثله، وحليفٍ لبلادهم يشبهه، وإن حافظ السابقون على العهد، والتزموا تجاههم بالوعد.
لم يفاجئ دونالد ترامب أحدًا بمواقفه، ولم يصدم آخرين بها، فقد توقعها الكثيرون وتنبأ بها المراقبون، واستعد إليها الأصدقاء وتنبه إليها الأعداء، وانتظرها الكيان الصهيوني بصبرٍ وشغفٍ، وتوقٍ وأملٍ، وقد كان صادقًا معهم ووفيًا لوعوده لهم، وجريئًا في الانحياز إليهم، وغير مترددٍ في تأييدهم وإعلاء الولاء لهم، ولم تتبخر وعوده الانتخابية، ولم يتراجع عنها عندما اطمأن وأصبح رئيسًا، بل التزم بها كتاجرٍ تربطه الكلمة، ويحكمه العقد، لكنه رجل أعمالٍ تحكمه العقائد ولا تسيره المصالح، ولو كان فيها نفعه ومكسبه.
لم يعد هناك مجالٌ للشك أو لسوء الفهم، فقد أصبحت الحقيقة أمامنا ساطعةً واضحة، سوداء كالحةً، وسنخطئ كثيرًا إذا أحسنَّا الظن بالإدارة الأمريكية الجديدة، أو ركنا إليها وإلى سياساتها الواعدة، وتمهلنا في الحكم عليها، واعتقدنا أنها ستتغير تدريجًا، وستصطدم مع الواقع الذي سيجبرها على إعادة النظر في قراراتها وتوجهاتها، إذ لن يغير من حقيقتها شيء، فهي ما جاءت إلا لترسي مفاهيم جديدة، وقيمًا قديمة، تقوم كلها على القوة والغطرسة والعصا الغليظة، لا وجود للجزرة فيها، ولا مكان للحكمة عندها، فإما السمع والطاعة، والتبعية والعبودية، وإلا فالعصا الموجعة والقوة المفرطة، وعلى من رغب في الحياة أن يظهر حبه لأمريكا وولاءه لها، وقد أعلن ترامب أنه لن يدخلها كارهٌ لها أو متآمرٌ عليها، وكل من يكره الكيان الصهيوني ويقاومه فلابد أنه كارهٌ لأمريكا ومتآمرٌ عليها، وجب حسابه واستحق منها عقابه.
يفكر الرئيس الأمريكي في إعادة رسم حدود المنطقة وترتيبها وفق مصالح بلاده وحليفه الكيان العبري، ولهذا هو يفكر مع نتنياهو في أفضل الحلول التي تناسبهما في المنطقة، وهو على استعدادٍ إلى أن يسخر قدرات بلاده العسكرية والسياسية لخدمة الكيان، إذ سيغض الطرف عن أي حربٍ قد يشنها الجيش الإسرائيلي على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، أو على المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، ولن يحزن كثيرًا على حال السيد محمود عباس ولا على الظروف البائسة التي تمر بها السلطة الفلسطينية، بل أعلن أنه سيمارس ضغوطًا مالية وسياسية على رئيس السلطة الفلسطينية للتخلي عن فكرة الشروط المسبقة، ولقبول الدخول في مفاوضاتٍ مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، والتخلي عن أفكار حق العودة وتفكيك المستوطنات وإعلان الدولة المستقلة، أو المطالبة بمدينة القدس عاصمةً لها.
وها هو يعين صهره اليهودي الشاب كوشنير ليكون مبعوثًا "للسلام" في منطقة الشرق الأوسط، وقد حمله أوراق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وهو على يقينٍ تامٍ بأن صهره اليهودي الديانة قبل أن يكون أمريكي الجنسية لن يفرط في أحلام "الشعب اليهودي"، ولن يتنازل عن "الحقوق اليهودية في أرض الميعاد"، وتحديدًا في القدس والضفة الغربية، التي باتت الإدارة الأمريكية لا تجد حرجًا في أن تستخدم المصطلح الإسرائيلي لها (يهودا والسامرة)، ولهذا هو لا يناقض أقواله، ولا ينقلب على ثوابته، إذ إنه مطمئنٌ أن هذه المفاوضات ستكون عبثية وغير جادة، ولن تتسبب في أي ضرر "للشعب اليهودي".
أما السفير الأمريكي الجديد دافيد فريدمان فما كان لأي حكومةٍ إسرائيلية أن تحلم بمثله يومًا سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية لدى كيانهم؛ فهو مستوطنٌ يهودي بأفكاره المتطرفة، ويسكن في مدينة القدس، ويدعم العمليات الاستيطانية، وينشط في جمع التبرعات لها، ويدعو الحكومة الإسرائيلية إلى "ضم (يهودا والسامرة) إلى دولة (إسرائيل)"، ويؤيد التعجيل في نقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس.
وفي الأيام القليلة القادمة سيكون بنيامين نتنياهو من أوائل القادة والزعماء الذين سيزورون البيت الأبيض، وسيلتقون سيده الجديد ترامب، إذ اتصل الأخير في ثاني يومٍ من إعلان فوزه رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية بصديقه بصفته رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، وطمأنه لجهة ثبات مواقفه الداعمة للكيان، وأنه سينفذ ما وعدهم به في حملته الانتخابية، وأكد أنه سيبطل قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2334) الذي أدان العمليات الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وعدها جميعًا أراضي محتلة، ورفض إجراء أي تغييرات أحادية الجانب فيها.
تخطئ الولايات المتحدة الأمريكية إذا أطلقت العنان لحصانها الأهوج، الشموس غير المروض، يفسد ويخرب ويدمر، ويغير ويعتدي ويظلم، ويصنف الدول والشعوب مزاجيًّا وفق هواه ومعتقداته الشخصية؛ فإنه سيزيد من أزمة الكيان الصهيوني، وسيعقد أمنه وسلامة مستوطنيه، وسيعرض مستقبل وجوده للخطر، وهو بسياساته هذه يضر بالشعب الأمريكي وبمصالحه الوطنية الكبرى قبل أن يضر بقضايانا المصيرية، التي نضحي من أجلها، ونقاتل في سبيلها، فهذه الأمة لن تخاف من تهديداته، ولن تخضع لوعيده، ولن تستسلم لإرادته، أيًّا كانت ومهما بلغت، ولن يستطيع أن يغير من رؤية الشعب الفلسطيني والأمة العربية الحرة شيئًا، فنحن على يقينٍ بأن الله معنا، ولن يترنا تضحياتنا، ولن يتركنا وحدنا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.