فلسطين أون لاين

​أنا وأنا

...
بقلم / أمل يونس

بين أنا وأنا، تموت (أنت) ويموت (هو)، وما أكثر المدونين بـ(أنا) والممتشقين سيفها على الدوام، فأذيبت كل الضمائر حولهم، ولم يبقوا سوى ضمير المتكلم، الذي لم ينفك أن يعجب بنفسه، ويمدحها، ويسلطها، حتى انتشت ملامح الكبر، وتجاوزت حدود التواضع، واعتلت عرش التسلط، وركضت باتجاه الأنانية.

يا للأسف الشديد!، باتت تطغى (الأنا) بمفهومها السلبي على النفوس، فلم تعد ترى أبعد من محتواها، ولا أكبر منها ولا حتى أصغر، بل تربعت على عرش الحكم، تقضي وتحكم، وتلعب الأدوار كلها.

لو توقفنا عند مشهدٍ متدهور الأوضاع، مليء بالعثرات، يضج بالوعورة؛ لوجدنا في منتصفه بقعة سوداء، غذتها (الأنا) التي ترى نفسها أكبر من الجميع، التي تصف نفسها بالملائكية، المُعتنقة للمثالية المطلقة، التي تحكم ولا تحاكم، ترسم ولا ترتسم، التي تنزاح عن العدل بالتسلط، وتنساق نحو الفرقة بالأنانية، وتختار التدمير من منطلق الكبر، كل هذا ونحن نبحث عما يدمر علاقاتنا، عما يوغر صدورنا، عما يسقطنا في ظلمة العزلة، عما يُفرغنا من محتوانا الإنساني، لنجد كل هذا في ثلاثة حروف ضخمت كمنظومة أسماها بعضٌ (أنا): أنا الذي فعلت كذا وكذا، أنا لا أتنازل لأحد، أنا لا يوجد مني اثنان.

عندما تتحدث ذواتنا بضخامة إنها تركب صهوة العنجهية والكبر والأنانية، لتنساق في نهاية المطاف نحو تدمير حالها وهلاك ملامحها، ربما بنظرة من حولها إليها ونفورهم منها، أو ربما بتدميرها من حولها، ثم شعورها باللذة المرضية لهذا المشهد.

كم من موظف أو مسؤول مرموق المنصب مكروه الحضور!، كم من صديق قريب بحضوره غائب بكبره!، كم من أب له مآل النسب يفتقد التمتع بجمالية البنوة!، كم من أم تحمل أسمى الألقاب وتبعد أميالًا عنه في محتواها!

تجهمت علاقاتنا حين طغت أنانية الشخصية الفردية، واستفحلت رؤاها بدكتاتورية الأنا فحجمت رؤى الآخرين، بتنا نفتقد تقبلنا للآخرين، وإن حضر القبول كان حضورًا ضعيفًا، فما عدنا نرى إلا أنفسنا، ونريد لرغباتنا فقط أن تكون، ولاهتماماتنا فقط أن تحيا، ولأوامرنا فقط أن تنفذ، أين الأطراف الأخرى التي تقطن حولنا على الكرة الأرضية نفسها؟!، أين (أنا) منها ومن همومها، ورغباتها، واهتماماتها، وحاجاتها، واحترام كينونتها؟!، نركض خلف ذواتنا متجاهلين ذوات الآخرين، منكفئين على كل ما يصب في خانة مصالحنا، حتى إن كان يؤذي الآخرين، نحتاج أن نعيد صياغة مفاهيمنا، وتحجيم ذواتنا بقدر ذواتنا الحقيقية، فأكبر خيانة نرتكبها حين نعطي أنفسنا حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي، حين نكابر ونكابر من أجل المكابرة فقط، رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، ولن يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كلما ضخمنا ذواتنا قل منسوب حب الناس لنا، ليس ذلك على سبيل كره، أو حقد منهم، بل على سبيل تعالٍ منا، وأنانية مفرطة، ونرجسية لاحظوها في شخصياتنا التي تحاول أن تذيبهم على الدوام، حبذا لو أعدنا هيكلية ذواتنا، وأعدنا شحن مشاعرنا بشحناتٍ إيجابية تجاه الآخرين، ربما بذلك نتغلب على صرعة (الأنا الطائشة) ونكبح جماحها، فركضها بغير هدف ليس لمصلحتها، واتخاذها وضعية (يا أرض اشتدي ما عليك قدي) هو نهايتها، فروضوا ذواتكم يا رعاكم الله.