غزة/ حازم الحلو:
أقمشة زاهية، وخيوط ملونة.. ربما يكون هذا المشهد اعتياديا عند الناس، لكن حينما تصطف تلك الخيطان على أقمشة تتخذ شكل الملابس، فإننا أمام تحفة فنية اسمها الثوب الفلسطيني.
لكن هذه التحفة لم تكن يوما للزينة فقط، بل تمثل مستندًا تاريخيًّا يربط الشعب الفلسطيني بأرضه، ويعبر عن تنوعه وحضارته، فمن يناظر الثوب يجد على الأكمام والصدر والذيل مخطوطة حكايات الناس وأحاديثهم، منذ "أيام البلاد" وحتى لحظتنا الراهنة.
وقد يظن البعض أن تهجير الفلسطينيين من أرضهم واندماجهم في المجتمعات الأخرى قد أنسياهم ما نسجته الأمهات وارتدينه في أيام الحصيدة وفي رأس حلقة الدحية، ومجلس الجدات أمام أفران الطينة في الريف الفلسطيني، إلا أن تلك الظنون ذهبت هباء، إذ تبخترت الفلسطينية رشيدة طليب بثوبها الفلسطيني وهي تدخل الكونغرس الأمريكي كأول فلسطينية تصل إلى تلك المكانة.
وإزاء ما فعلته طليب، انتشرت حملة ارتداء الثوب الفلسطيني انتشار النار في الهشيم على شبكات التواصل الاجتماعي، تداعت لها النساء والفتيات الفلسطينيات، يرتدينه ويتزينّ به معلنات تضامنهن مع طليب، بعدما تعرضت لهجوم من الاحتلال الإسرائيلي بزعم أنها أمريكية فما بالها والثوب الفلسطيني على عتبات الكونغرس.
فن حياكة الحياة
ونشرت الشابة الفلسطينية التي تعيش في الأردن سارة سويلم صورة لها على صفحتها الشخصية على مواقع التواصل وهي ترتدي ثوبًا فلسطينيًّا، وتقول بكل زهو وفخر، إن الثوب الفلسطيني يعني لها الكثير، فـ"الشعب الذي يتمسك بعاداته وفنونه وإرثه المقدس هو الشعب الذي يجيد فن حياكة الحياة ومواجهة الأعداء".
وكأنها تشتم عبير فلسطين التي تراها على مرمى حجر من الأردن، وتفصيلا لموقفها المتضامن مع طليب، تتحدث سويلم لـ"فلسطين" بفرح عن أن "عطور الأصالة تتناثر في ربوع بلادي عندما تقف الفلسطينية متحدثة بعبق التحدي وروح الانتماء بهذا الثوب الذي يعبر عن أصالة ورقي الشعب الفلسطيني وتحديه العدو الصهيوني عبر مراحل القضية الفلسطينية منذ الأزل".
أما المذيعة في فضائية القدس سلوى أبو عودة، التي وضعت صورتها بالثوب الفلسطيني كواجهة لحسابها على فيسبوك، فتتملكها مشاعر الحب للوطن حينما تؤكد أن الثوب هو رمز الهوية لكل فلسطينية بمختلف وجودها، وأنها ترتديه دائما، لكنها اختارت إظهاره في هذا الوقت تضامنا مع عضو الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب.
وتصف أبو عودة في حديثها لـ"فلسطين" طليب بأنها حافظت على تراثها، وحملته معها بعد النكبة، وهي تتنقل بين المنافي والشتات، وورثته جيلاً بعد جيل خوفا عليه من الضياع".
وكما فعلت بنات شعبها، ارتدت أبو عودة الثوب الفلسطيني الذي له تاريخ عريق وراسخ في جذور الأرض والوجدان الفلسطيني، فهي ترى أن التطريز فنّ وحضارة، فلكل مدينةٍ وبلدة نقشها الخاص الدال على بعض ما تشتهر بها تلك البلدة مثل وردةٍ أو نبتةٍ أو غيرهما.
وكمن يحافظ على أبنائه، توصي أبو عودة بالحفاظ على الثوب الفلسطيني من محاولاتٍ الاحتلال سرقته والادعاء بأنه ثوب إسرائيلي، فتؤكد أهمية دور النشطاء في جميع أنحاء العالم عامة، والفلسطينيين خاصة في التعريف به وإشهاره من خلال خطواتٍ جريئة مماثلة لخطوة طليب التي سيشهد لها التاريخ.
آلة للزمن
والفلسطينية د. غادة بن سعيد، ترى من ناحيتها، في الثوب الفلسطيني آلة للزمن تعيدها إلى تفاصيل حياة أجدادنا بكل ذكرياتها التي تحمل رائحة البلاد المحتلة، مؤكدة أن التطريز والأثواب بتفاصيلها كافة تحكي قضيتنا عبر الأجيال.
وتؤكد بتأثر بدا واضحًا في حديثها لـ"فلسطين"، أن الشعب الفلسطيني بعدما حرمه الاحتلال من أرضه، يتنسم عبير تلك الأيام باحتفاظه بتراثه، والأثواب على مختلف تطريزاتها وألوانها التي يعود بعضها لتاريخ قديم يمثل للفلسطينيين موروثا أُسَريا ينتقل من الجدة للأم وللابنة وهكذا. ولا تخفي بن سعيد فخرها بكل شخص يهتم بالتراث سواء بالمحافظة عليه أو بإنتاجه وعرضه بدول مختلفة، لأن تلك الأنشطة والفعاليات تزيد من الحضور الفلسطيني في الوطن العربي والعالم الغربي على حد سواء.
أما الفتاة دعاء البايض التي تزينت بثوبها الفلسطيني أيضا فتتحدث لـ"فلسطين" بأنها ترى نفسها مثل الملكات وهي تخطو بهذا الثوب الذي تضعه في مرتبة أعلى وأغلى من الذهب، فهو وإن كان قماشا فإنه ينطق بكل ذرة فيه بتاريخ شعبنا الناصع، ويهتف بأن الحق الفلسطيني سيعود ولن يندثر.
وتشاطرها الرأي في ذلك الفتاة الفلسطينية أروى أبو دوابة، التي ترى أن الثوب الفلسطيني رمز من رموز التراث الفلسطيني الواجب حضوره في كل لحظاتنا التاريخية، بوصفه شاهدًا على انتصاراتنا وأفراحنا، تماما كما حدث مع "طليب".
حنين وتذكارات
ويتفوق من هم خارج فلسطين في معدل الطلب والاهتمام بهذه الثياب على من هم داخلها، كما يشير تاجر التحف والملابس التراثية محمد طلال أبو دية، مُرجعا ذلك إلى أن من يعيش خارج فلسطين من اللاجئين أو غيرهم يظل يشعر بالحنين إلى الوطن ويدفعه ذلك لاقتناء التذكارات كالملابس التراثية والأدوات البسيطة.
ويذكر أبو دية في حديثه لـ"فلسطين" أن المغتربين يطلبون تلك الملابس عبر متاجر مختصة على شبكة الإنترنت، منبهًا إلى أن إيصال تلك الملابس لخارج غزة يتطلب مشوارًا طويلًا بدءًا بوجوب مرورها إلى الضفة الغربية المحتلة وانتهاء بتضييقات الاحتلال الذي يرى في تلك الأثواب عدوا ماثلا يجب قتاله وقتله.
يذكر أن أبرز من ارتدى تلك الملابس هي الملكة رانيا عقيلة العاهل الأردني، حينما قام أبو دية بإهدائها فستانا فلسطينيا وارتدته الملكة كتعبير عن تقديرها للتراث الفلسطيني، وهي التي تنحدر من أصل فلسطيني، إضافة إلى عشرات الشخصيات الاعتبارية داخل فلسطين وخارجها ممن يرتدينه في المناسبات الوطنية والعامة والخاصة.
لكن أبو دية يرى أن الوضع الاقتصادي في قطاع غزة خصوصًا والأراضي الفلسطينية عموما لا يشجع المواطنين على اقتناء وشراء الملابس التراثية، لارتباطهم بالأحداث التي تجري يوميًا على الأرض، ما يجعل دافعيتهم لامتلاكها أقل، برغم وجود نسبة لا بأس بها من المهتمين.
وبرر التاجر أبو دية قلة تطريز الثوب الفلسطيني خارج الأراضي الفلسطينية بصعوبة تنفيذه لأنه يجب أن يعتمد على أيدٍ عاملة تجيد نسج تلك الملابس وتَبرعُ في فن التطريز الفلسطيني، فضلا أن عن تكلفة صناعته خارج فلسطين ستكون مرتفعة.
وأكد أن العمل بالثوب الفلسطيني متعب ومرهق جدًا، لاهتمامه بالتفاصيل الدقيقة من ناحية جودة القماش وأنواع الخيوط وطريقة التطريز التي توجب أن تكون النقلة بين الغرزة والأخرى متقاربة جدًا، وهذا يتطلب دقة متناهية ومهارة استثنائية في صف الغرز وترتيبها لكي تخرج نقشة الثوب في أبهى حلة وأجمل منظر.