تُعد الجريمة من أخطر الظواهر التي تُهدد النسيج الاجتماعي في المجتمعات كافة بكل أبعادها وآثارها, إذ يشهد عصرنا الحالي انتشارًا ملحوظًا للجريمة, ففي كل مكانٍ نذهب إليه آثار لها حتى بات التخلص من السلوك الإجرامي صعبًا, فهل عدم تنفيذ القصاص بحق المجرمين أحد الأسباب الكامنة خلف انتشار الجريمة؟! وكيف يكون القصاص رادعًا ومحافظًا على الإنسانية واستقرارها بذات الوقت؟ وهل التسويف في تنفيذ الأحكام يُعطي أملًا للمجرم بالعفو, وضمانًا لغيره بارتكاب الجريمة؟! ما الحلّ إذًا!
أمن واستقرار
يقول الأستاذ المشارك في الفقه الإسلامي وأصوله د. زياد مقداد: "إن جريمة القتل من أشنع الجرائم المجتمعية, لذا قررت الشريعة الإسلامية لها عقوبة رادعة في الدنيا والآخرة".
وتابع مقداد في حديث مع فلسطين: "وتُعد عقوبة القتل من أشد العقوبات المقررة, ففي الحياة الدنيا القاتل بغير وجه حق عقوبته القصاص أي القتل, وهذه العقوبة لم تأتِ اجتهادًا ولا اتباعًا للهوى إنما أقرها القرآن الكريم "ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب", والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "العمد قود", بمعنى قتل العمد فيه القصاص.
ورغم أن ظاهر العقوبة يبدو قاسيًا وشديدًا إذ يدعي البعض في عقوبة القصاص مخالفة للإنسانية, إلا أن ذلك ليس صحيحًا بل هي محافظة على الإنسانية والحياة المطمئنة تكون بتقرير هذه العقوبة وتنفيذها وفقًا لما يقول د. مقداد.
وبيّن أن حقيقة هذه العقوبة رحمة للناس والمجتمع رغم قسوتها, فهي العلاج الأمثل للقضاء على ظاهرة القتل والاعتداء على النفس البشرية بغير حق, فمن علم أنه إذا قَتل يُقتل امتنع, ومن قَتل يُقتص منه كان ذلك زاجرًا لغيره, وبهذا يتُحقق الأمن والاستقرار بين أفراد المجتمع.
ورغم وضوح موقف الشريعة الإسلامية من عقوبة الجريمة إلا أنها أبقت الباب مفتوحًا للخلاص بشرط موافقة أهل المقتول للتنازل عن القصاص بالدية أو العفو التام وفقًا لقول الله تعالي: "فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان".
وأوضح مقداد أنه لا مانع من أن تتدخل لجان الإصلاح لإقناع أهل المقتول بالعفو والصفح عن القاتل, فهذا ما قررته الشريعة الإسلامية ولكن دون أن يكون في هذه المطالبة نوع من الإكراه والإجبار بشكلٍ أو بآخر, مستطردًا بالقول: "لأن ذلك سيُبقي الثأر يتحرك في دمهم وتنقلب الأمور على غير المراد هذا من جهة المقتول أما المجتمع فالصلح المتكرر سيؤثر سلبًا على استقراره؛ لأن ذلك سيُغرى المجرمين بالاستمرار في جرائمهم على اعتبار أن نهاية الأمر هو الصلح أو العفو".
ماذا تقصد د. زياد مقداد بالإجبار أو الإكراه في الصلح ؟! يُجيب: "تكرار العرض لأجل الصلح ليس إجبارًا إنما القصد بالإكراه هو أن يوهموا أهل القتيل أن الثأر قد يتسبب بحالة قتل أخرى وبذلك لن يتمكنوا من إيقاف شلال الدم بين العوائل, كذلك قد تكون صياغة أهل الإصلاح فيها نوع من الإجبار, مثلًا: "اقبل وإلا تركناك.. ولن نتدخل فيما بعد إذا ما حدث ثأر", ولا أعتقد أن لجان الإصلاح تقوم بإجبار أهل القتيل على الصلح, لكن أخشى ذلك".
سلبيات التسويف
وهناك من يصدر بحقهم حُكم القصاص من القضاء الأعلى لكن لا يتم تنفيذ القرار على الفور فما هو موقف الشريعة الإسلامية من ذلك؟ يرّد د. مقداد: "تسويف تطبيق الأحكام الصادرة بحق المجرمين من قبل القضاء الأعلى, له خطورة كبيرة على المجتمع, فإذا ما تأكد وقوع الجريمة بالأدلة والبرهان فالأصل ألا يؤخر القصاص سيما إذا امتنع أهل القتيل عن قبول الصلح أو العفو".
وأشار إلى أنه لا يوجد هناك مسوغ للتأخير في تطبيق الأحكام, إلا إذا كان هناك أمل لإعطاء فرصة جديدة للإصلاح والعفو, لكن لا يجب أن يمتد هذا الأمل لشهور وسنوات طويلة.
ويرى د. مقداد أن تأجيل تطبيق الأحكام يُفقد الحكومة الثقة من قبل أهل المقتول ما يضطرهم لأخذ القصاص بأيديهم فيقعون في الخطأ من جديد, كذلك التأخر يُؤثر سلبًا على هيبة القضاء في المجتمع, عدا عن أن تسويف تطبيق الأحكام قد يُفسح المجال للقاتل بالتفكير بالهرب والخلاص, وكل ذلك سيكون سببًا في انتشار الجريمة بالمجتمع وعدم الخوف من وسائل الردع المشرعة.