كان لوجود البيانو في مسرح النورس مكانة خاصة، وكذلك في قلب سعد؛ فقد كان يحافظ عليه كما لو أنه أحد أبنائه، فيهتم به وبنظافته، ويحميه من تأثير هواء البحر بتغليفه، ويحافظ عليه من أي خدش، وفي حرب عام 2014م كانت المخاوف تملأ قلبه أن يقصف المكان ويتدمر البيانو، وعند إعلان هدنة خلال الحرب أول ما خطر بباله الاطمئنان عليه هو البيانو، فخاطر بنفسه وأبنائه وذهب إلى المنتجع لنقل البيانو إلى "البدروم" لوضعه في مكان آمن، وبالفعل ما كان خائفًا منه قد حدث، وقصف منتجع النورس، ولكن لم يُصب البيانو بأي أذى.
وبالعودة بالزمن إلى الوراء في عام 1997م تبرعت الحكومة اليابانية لوزارة الثقافة بمجموعة من الآلات الموسيقية، وكان منها ذلك البيانو الضخم والمميز، الذي يعد من الآلات النادرة، إذ أعارته وزارة الثقافة لعبد الكريم السبعاوي مالك منتجع النورس في ذلك الوقت، ثم باع المنتجع عام 2011م لسعد حرز الله، ولم يخبره أن البيانو تعود ملكيته لوزارة الثقافة.
في حرب 2014م قُصف منتجع النورس، ولحق الأذى مختلف أرجائه، وبعد انتهاء الحرب حضر متخصص بلجيكي للاطلاع على البيانو ومعاينته خوفًا من أن يكون قد تأثر بالقصف، ورأت الحكومة اليابانية أن مكانه في المنتجع غير ملائم، واتخذت عدة إجراءات لاستعادة البيانو الكبير بعد رحلة طويلة.
قال حرز الله: "كان للبيانو مكانة خاصة، وبعد تسليمه عز عليّ فراقه، فلم يغب عن بالي لحظة واحدة، ولكن في نهاية الأمر لابد من تغليب مصلحة الوطن على المصلحة الخاصة، فغيابه سيترك فراغًا كبيرًا في قلبي وفي مسرح النورس".
مقاومة ناعمة
وخلال احتفالية صغيرة نظمت أمس بوزارة الثقافة في غزة بعودة البيانو، جلس محمود سلمي (موزع موسيقا) أمام البيانو، وعزف ألحان نشيدة: "سوف نبقى هنا"، وقال: "معي أني أجلس قبالته وأعزف عليه أنا غير مصدق أن هذا البيانو الكبير في غزة؛ فهو من أفضل البيانوهات الموجودة في العالم".
وأضاف لمراسلة صحيفة "فلسطين": "لا أخفي عليكِ أني أشعر بالرهبة وأنا أعزف عليه لكبره وندرته؛ فهو من أفضل الآلات التي يتمنى أن يعزف عليها أي عازف موسيقي"، ويتمنى أن يوضع في المكان الصحيح، والمحافظة عليه.
فالموسيقا هي تلك القوة الناعمة للمقاومة وانتزاع الحقوق، فيمكن استخدامها في كل المجالات وتطويعها في الأعمال الوطنية والدراما، ومن السهل فهمها، وإيصال رسالتها، حتى للإنسان الأمي.
مسرح وطني
وذكر وكيل وزارة الثقافة في غزة د. أنور البرعاوي أن الحكومة اليابانية لها باع طويل في المجال الثقافي والتعليمي والصحي، قائلًا: "فنحن الفلسطينيين نشعر بهذه الحفاوة الكبيرة من اليابان حكومة وشعبًا، وأقدم لهم شكري على المنح التي يقدمونها للمجتمع الفلسطيني".
وبين أنه بعد الرحلة الطويلة التي قضاها البيانو متنقلًا بين أرجاء مختلفة في قطاع غزة، يأمل بناء المسرح الوطني الفلسطيني "جايكا"، ليكون داعمًا في المجال الثقافي، والاستفادة منه في المجال الفني.
ولفت د. البرعاوي إلى أنه يأتي الاهتمام بهذه الآلات لأهمية التبادل الثقافي والفني بين الشعوب، فلغة الفن لغة واحدة وموحدة، ليس لأبناء الشعب الواحد فقط، بل كل الشعوب، ومن أجل أن يعم السلام.
ومن جهته يأمل ممثل مؤسسة جايكا اليابانية ساهر يونس أن يكون البيانو قد خرج من حالة الصمت إلى العزف، ووضعه في المكان الصحيح، حتى يتسنى لجميع أبناء الشعب الفلسطيني الاستفادة منه.
ومحمود المدهون ممثل وزارة الخارجية بين أنهم واكبوا رحلة البيانو، قائلًا: "فقد كان البيانو ضمن الدعم الذي تقدمه الحكومة اليابانية للشعب الفلسطيني منذ إنشاء السلطة حتى قيام دولة فلسطين، وأدعوهم لبذل الجهود لإنشاء المسرح الوطني الثقافي، حتى يتسنى للجميع أن يستفيد من المبادئ الأساسية الثقافية بين الشعوب".
وشكر الجميع حرز الله الذي حافظ على البيانو طيلة المدة السابقة، فالمشاهد له لا يصدق أنه يبلغ عمره في غزة فقط 21 عامًا، ولا يزال بجدته ورونقه، وشكلت وزارة الثقافة لجنة لإيجاد المكان المناسب للبيانو حتى يستفاد منه الاستفادة المثلى.