الخطاب القادم من مقاطعة رام الله ينحرف عن مسار الخصومة السياسية, ما بين حركتي فتح وحماس, ويبتعد عن ساحة الجدال والتراشق الإعلامي فيما يتعلق بملف المصالحة, أو الاتهامات المتبادلة بشأن من المتسبب في عرقلة توحيد جسم السلطة الإداري بين الضفة وقطاع غزة, ولقد أصبح واضحًا من يعرقل قطار المصالحة ويؤخر إنجازها الممكن, مستندًا في ذلك إلى عقلية التفرد والهيمنة, ومطالبًا الآخر بإعلان هزيمته وتسليمه كل شيء من الباب إلى المحراب, بعيدًا عن مفاهيم الشراكة والوحدة, التي نصت عليها اتفاقيات الحوار في القاهرة 2011م و2017م, وكل التفاهمات الأخرى.
كمية الإرباك والتيه في خطاب السيد عباس تكشف حجم الأزمة، وعمق المأزق الذي يعيش فيه فريق التسوية والاعتراف, تناقضات ومتضادات مزمنة, كلمات مبعثرة في فضاءات المجهول, وجُمل غير مفهومة السياق تتصادم مع كل شيء وتبتعد عن كل إيجابية, وادعاء بطولة ينفيها واقع التنسيق الأمني, واعترافات كارثية لا يقبلها الفلسطيني الحر, وخربطات مدروسة تستهدف الوعي الفلسطيني, وبث الشائعات بكمية معتبرة بهدف زلزلة القناعات الوطنية, واتهامات بالعمالة لمنظومة وحدوية مقاومة في قطاع غزة, والتأليب على المساعدات الإنسانية لغزة, التي طالب مرارًا بأن تدخل من طريقه شخصيًّا, وصفة من الجنون والشعوذة السياسية واستسلام للنفق المظلم, لا شيء في بضاعته إلا التهديد والوعيد، وإشعال النار الداخلية، وحرق لكل مراكب التواصل الوطني المتبقية, وقصف كل جسور الترابط التي قد يُعول عليها في وحدة منجزة.
قرار حل المجلس التشريعي لم يكن مفاجئًا, فهو المُعطل بإرادة رئيس السلطة, منذ الرفض لنتائج الانتخابات العامة, ووضع العراقل في دواليب الجلسات التشريعية, وافتعال المشاكل على كل صغيرة وكبيرة, وصولًا إلى تعطيل المجلس التشريعي بعد الأحداث المؤسفة صيف 2007م, وكان بالإمكان استمرارية عمل المجلس التشريعي مظلة للكل الفلسطيني, ومن طريقه الحفاظ على وحدانية السلطة ومؤسساتها ورعاية الوحدة الوطنية وتعزيزها, ولكن ذلك لم يحدث لاعتبارات حزبية وحسابات ضيقة لا تقرأ المستقبل ولا تُقوّم انعكاسات الأحداث, وكل ما يجول في تفكيرها القاصر تُحركه أهواء التفرد وأمراض الإقصاء.
معلوم أن المجلس التشريعي سيد نفسه, ولا يلغى أثره ولا يعدم وجوده ولا تنتهي ولايته إلا بتسلم مجلس جديد منتخب, إذ تفيد المادة الـ(47) مكررة من النظام الأساسي الفلسطيني أنه "تنتهي مدة ولاية المجلس التشريعي القائم عند أداء أعضاء المجلس الجديد المنتخب اليمين الدستورية", وهذا النص القانوني الدستوري الواضح لا يحتاج إلى تفسير, يبطل كل دعاوى الحل من أي جهة كانت, وهذه الحقيقة تؤكد لنا أن قرار الحل ذو مصلحة سياسية حزبية معدومة الأفق، ويعزز الانقسام والفرقة, وأن القرار ليس له أي سند قانوني مُعتبر.
لا يعنيني كثيرًا الرد على هذا القرار أو تفنيده على الوجه القانوني؛ فهناك من قام بذلك من القانونيين المختصين, فقناعتي أننا بحاجة إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني, وإزالة كل المعوقات أمام إقامة هذا الصرح الناظم للعلاقة بين مختلف المكونات الفلسطينية, على قاعدة حفظ القضية، وتعزيز وحدة الشعب, ونبذ أسباب الفرقة والخلاف, وتأكيد استمرارية مقاومة الاحتلال, وتعزيز الصمود الشعبي في مواجهة مؤامرات الاقتلاع وطمس الهوية الفلسطينية.
ولكن الأخطر من قرار حل المجلس التشريعي هو التباهي والفخر والزهو بإحباط العمليات الفدائية ضد الاحتلال ومستوطنيه في الضفة المحتلة، خطوة حل التشريعي تأتي في سياق ممارسة الاستبداد والديكتاتورية السياسية، أما ملاحقة المقاومة والتعاون مع الاحتلال ومحاربتها فهي عدوان على شعبنا وتاريخه وحاضره ومستقبله, وإسناد للاحتلال وترسيخه في أرضنا المحتلة.
يحاول السيد عباس في خطاباته شرعنة التنسيق الأمني مع الاحتلال الصهيوني, لذا يحرص على إعلان ذلك إعلانًا واضحًا وجليًّا، الدور الذي تُشرف عليه السلطة في محاربة المقاومة, في خطابه الأخير 22-12-2018م أعلن صراحة أن السلطة وأجهزتها تقف وراء إفشال 90% من عمليات المقاومة في الضفة المحتلة, التي تعاني الاحتلال، والاعتقال، وعربدة المستوطنين، وتضييق الحواجز, ونهب الأرض، وسرقة المياه, وتهويد القدس، وتدنيس الأقصى, وجرائم متنوعة ومستمرة يرتكبها الاحتلال ومستوطنوه ضد شعبنا وأهلنا في الضفة المحتلة, أليس من حق رجالها وشبابها مقاومة هذا التغول الاحتلالي؟!، لمصلحة من محاربة المقاومة وإفشال عملياتها والتنسيق مع الاحتلال للتضييق عليها؟!، رغم الاعتراف المتكرر المسجل بالصوت والصورة للسيد عباس بتمسكه بالتنسيق الأمني مقدسًا سلطويًّا هناك من يعد الحديث عن عورة التنسيق الأمني حديثًا في دائرة التراشق والاتهامات، وتعزيزًا للانقسام, وهذا إغماض قسري للعين الوطنية عن رؤية الأحداث على حقيقتها, وتشويه متعمد للبوصلة الفلسطينية، ودفاع غير مستساغ عن مسار تفريطي يتماهى مع الأعداء, ولا يلقى أي إجماع على الساحة الفلسطينية في الداخل والخارج.
أمام هذا المشهد الكارثي يصبح من الضرورة الوطنية إعادة تصويب المسار الوطني, وإصلاح المؤسسات الفلسطينية السيادية, والبحث عن بدائل وطنية مجمع عليها, تحفظ القضية الوطنية، وتصدح بالحق الفلسطيني, وتعزز الوحدة وترسخها, وتساند المقاومة وتدعمها، وتعزز صمود الشعب على أرض وطنه.