في مخيم الأمعري وسط مدينة رام الله بالضفة الغربية حكايةٌ صبر، تسطرها والدة ستةأشقاء أسرى يقبعون في سجون الاحتلال وسابعهم شهيد، ورثوا حبهم للوطن عن والديهم، هدم الاحتلال منزلها ثلاث مرات، لكنها من بين الركام تنهض الحاجة لطيفة أبو حميد (72 عامًا) المعروفة بـ"أم ناصر" في كل مرة من جديد، صابرة على فراق ستة من أبنائها، إذ أصبحت وحيدة في منزلها بعد اعتقال الاحتلال ابنها إسلام، لا تبكي على هدم حجارة المنزل بل على الذكريات "الجميلة" فيه.
فمن وجع البعد عن أبنائها الستة إلى وجع التشرد وهدم المنزل لا تملك أم "ناصر" سوى الصبر؛ فهذه المسنة نموذج فريد، فرغم كل ما تعانيه لا تزال متمسكة بمنزلها وحقها في أرضها، رغم هدم الاحتلال الإسرائيلي منزلها ثلاث مرات لم تغادر وترحل عن مخيم الأمعري، بل نصبت خيمة أمام المنزل ومكثت فيها.
هناك حكاية لأم ناصر مع زيارة سجون الاحتلال، بدأت فصولها منذ ثمانينيات القرن الماضي، حينما كان أطفالها يعتقلون مددًا متقطعة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة) عام 1987م، حتى إنها زارت جميع سجون الاحتلال، وأبرزها ريمون، والدامون، وعسقلان، وعوفر.
تمر الأيام والأعوام ويكبر أبناؤها في كل زيارة؛ فناصر الذي اعتقل وهو لم يتجاوز 13 عامًا أمضى نحو 30 في سجون الاحتلال، 17 عامًا منها متواصلة، حتى أصبحت سنه 48 سنة ولم يتزوج، ولا تزال الأحكام المؤبدة وسنوات الأسر تأكل من عمره.
منزل الحاجة "أم ناصر" المكون من أربعة طوابق فجّره الاحتلال في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2018م بعد إخلائه بالقوة، بعد قرار الاحتلال هدمه، إذ يتهم نجلها الأسير "إسلام" بقتل جندي إسرائيلي قبل سبعة أشهر.
الهدم الثالث
"رسالتي للاحتلال هي: ليست أول مرة يهدمون منزلي فيها؛ مهما هدم الاحتلال واعتقل فسندافع عن مقدساتنا، وسنبقى ثابتين في أرضنا لأنها لنا (...) المال يتعوض، وهو ليس أغلى من الرجال وأبنائي الأسرى في سجون الاحتلال" تتحدث أبو حميد إلى صحيفة "فلسطين".
السبت 15 ديسمبر: قوات إسرائيلية كبيرة قدمت إلى مخيم الأمعري لهدم المنزل للمرة الثالثة، قبل ذلك بأسبوع سلم لها الاحتلال قرار هدم الطابقين الأول والرابع من المنزل.
القوات المقتحمة للمنزل اعتقلت ابنها إسلام الذي تتهمه بقتل أحد أفراد وحدة المستعربين الذين اقتحموا المخيم، ظلت تحقق معه في منزله عدة ساعات، "كيف إسلام، حابة تشوفيه؟" يحاول الضابط الإسرائيلي استفزاز أم ناصر، لكن هذه الأم الصابرة ظلت ثابتة حتى لحظة إنزال ابنها من الطابق الرابع إلى الطابق الثالث الذي توجد فيه، ومعه ستة محققين، وعذبوه، لم تتأثر وبقيت ثابتة.
أخرجت قوات الاحتلال من وجد في المنزل، واقتادت نحو 40 شابًّا من أبناء الحي إلى أقرب مدرسة مجاورة، تكمل أم ناصر بنبرة صوت متعبة بعد عودتها من خيمة اعتصام نصبتها أمام منزلها: "هذا العقاب الجماعي حتى أنهار، لكن كلما هدموا بيتنا أزداد قوة وإيمانًا".
كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة صباحًا، لحظة قدوم جنود الاحتلال بقوات كبيرة، تواصل: "أخرج الجنود كل أبناء الجيران، ولم يسمح لي أحد الجنود بأخذ علبة الدواء الخاصة بي ورماها على الأرض، وعندما حاولت العودة مرة ثانية إلى المنزل لإحضار الدواء مرة أخرى منعني ثانية".
يدفع الجندي الإسرائيلي الحاجة السبعينة بقوة: "إنت الآن لازم تروحي على المدرسة أو على سجن عوفر"، لم تبق صامتة: "لن أذهب إلى أي مكان، سأنصب خيمة وأبقى في منزلي"، كان في المكان أفراد من الهلال الأحمر الفلسطيني، تدخل أحدهم لدى جنود الاحتلال للسماح له بإحضار دواء الحجة فسمحوا له.
أربع ساعات استمرت قوات الاحتلال في هدم المنزل، في البداية بأدوات هدم يدوية للجدران، ثم وضعوا متفجرات وفجروا المنزل، نتج عنه هدمه كله، وتضرر نحو خمسة منازل محيطة، كما تتحدث حميد.
ليست المرة الأولى
عام 1994م كانت أم ناصر أبو حميد على موعد مع أول عملية هدم لمنزلها في مخيم الأمعري بمحافظة رم الله، بعد استشهاد ابنها عبد المنعم، من أعماق ذاكرتها تسترجع ذلك المشهد قائلة: "دون سابق إنذار جاءت قوات إسرائيلية كبيرة إلى المخيم في ساعات الفجر، وقالوا: "إن بيتكم مصادر"، وهدموه، واعتقلوا ابني ناصر، كان طفلًا لم يتجاوز 13 عامًا، واتهموه بتنفيذ عمليات مقاومة".
مرت السنوات، وبعد تشرد ومعاناة استطاعت أم ناصر بناء منزلها في المكان نفسه مرة أخرى، لكنه عادوا عام 2003م، بعد عام من اعتقال أبنائها: ناصر، وشريف، ومحمد، ونصر، وجهاد، لا تزال تحتفظ بتلك التفاصيل الصعبة: "جاءت قوات كبيرة إلى المخيم الساعة الثالثة والنصف فجرًا، وأمهلوني بعد اعتقال أبنائي نصف ساعة لأفرغ البيت من الأثاث والأغراض قبل هدمه، لكنني لم أستطع ذلك".
الضابط الإسرائيلي يتحدث إلى والد الأسرى:
-نريد أن نهدم البيت لأن أبناءك مخربون.
رد عليه بإجابةٍ ممزوجةٍ بالثبات:
-ذهب الأولاد؛ فلن أحزن على البيت، افعل ما تشاء.
حكاية مع السجون
قبل أسبوعين استطاعت زيارة أبنائها نصر وناصر ومحمد في سجن عسقلان، الزيارات متعبة لوالدة الأسرى السبعينية، بإجراءات التفتيش، والساعات الطويلة التي تقضيها حينما تخرج من منزلها صباحًا وتصل إلى السجن مساءً، لكنها لا تتخلف عن زيارتهم في كل مرة يسمح لها بذلك.
"أبقى أمامهم قوية متماسكة، لأن أبنائي يستمدون معنوياتهم مني، كنت آمل أن يخرج أحدهم في صفقة تبادل الأسرى عام 2011م، وكلي أمل أن يخرجوا في الصفقة القادمة".
وبعد انضمام إسلام (أصغر أبنائها) إلى إخوته في سجون الاحتلال أصبحت أم ناصر وحيدة في منزلها المهدوم، لم تحزن على الحجارة التي دمرت، بل على ذكرياتها الجميلة مع أبنائها، وزوجها الذي توفي قبل أربعة أعوام.
"إنت حتقضي عمرك جوا السجن" لا تنسى ما قاله القاضي الإسرائيلي لابنها ناصر لحظة محاكمته، وبعد الإفراج بعد اتفاق أوسلو الاحتلال اعتقله مرة أخرى، تستذكر أن ابنها ناصر الذي كان طفلًا حاول قوات إسرائيلية خاصة اغتياله في الانتفاضة الأولى بإطلاق النار عليه من مسافة قريبة، لكن الرصاص أصابه، ونقل بطائرة عسكرية مروحية إلى المشفى.
"سننتظرك حتى تكبر"
على إحدى نقاط العبور بين الأردن والضفة الغربية أوقفَ ضابط الاحتلال المتعجرف، الفتى رائد أبو حميد، الذي لم يرَ والده الأسير منذ 15 عامًا، محاولًا استفزازه بسؤال أيعرف السبب الذي أدى إلى اعتقال أبيه.
لم ينتظر من الفتى إجابة، بل سارع هو إلى تقديمها بقوله: "ننتظرك حتى تكبر كي تنضم إلى والدك في السجن"، كان رائد يشتعل غضبًا، لكنه حاول أن يخفيه قدر المستطاع، قائلًا: "لا يهمني؛ سأضحي مثلما ضحى والدي".
لحظة اعتقال والده كانت سن رائد عامًا، لكنه اليوم كبر وأصبح يبلغ من العمر (18) عامًا، وكانت أمه حاملًا بشقيقه عائد (16 عامًا)، حرما قضاء طفولتهما مع والدهما، كبرا بعيدًا عنه ولا يعرفان مصيرهما أمام تلقيهما تهديدات مستمرة في كل مرة يواجهان فيها ضباطًا إسرائيليين.
نصر أبو حميد -وهو والد ذينك الفتيين- محكوم عليه بالسجن 5 مؤبدات، أمضى منها 26 عامًا؛ بتهمة مقاومة الاحتلال، أما إخوته فهم: الأسير ناصر أبو حميد، وهو محكومٌ عليه 7 مؤبدات، أمضى منها 30 عامًا، وشريف محكوم عليه 4 مؤبدات أمضى منها 24 عامًا، ومحمد محكوم عليه مؤبدين و30 عامًا، أمضى منها 16 عامًا، وجهاد المحكوم إداريًّا، واعتقل الاحتلال الخمسة معًا في المرة الأخيرة عام 2002م، وينتظر إسلام الذي اعتقل خلال الشهر الجاري حكمًا بالسجن المؤبد.
نصر (42 عامًا) الوحيد المُتزوج من إخوته،كان اعتقاله الأول إبان الانتفاضة الأولى مدة عشر سنوات، وأُفرج عنه عام 1999م، وبعد خروجه تزوج ورزق ابنه رائد، ثم أعاد الاحتلال اعتقاله عام 2002م وحكم عليه بالسجن 5 مؤبدات.
حكاية ناصر (48 عامًا) مع المقاومة بدأت حينما كان يبلغ 12 عامًا، وبنبرة صوتٍ مُجهدة من الإضراب تكمل والدته: "ناصر كان أصغر طفل فلسطيني يعتقل في الانتفاضة الأولى، بتهمة إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال".
ولم يختلف حال شريف (35 عامًا) عن بقية إخوته، فقد اعتقله الاحتلال وسنه 14 عامًا في تسعينيات القرن الماضي، مع أنه كان مريضًا ويعاني ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم، بتهمة إلقاء الحجارة، وحكم عليه بالسجن 9 سنوات، وبعد عامٍ من الإفراج عنه اعتقله عام 2002م، وحكم عليه بالسجن أربعة مؤبدات.
وبالطريقة نفسها كتب الشهيد القسامي عبد المنعم قصةً أخرى في البطولة ومقاومة الاحتلال، واستشهد -وفق إفادة والدته- عام 1994م حينما اغتالته قوات خاصة إسرائيلية بعد مطاردة استمرت عدة أشهر، بتهمة تنفيذ عملية اغتيال لأحد ضباط (شاباك) الإسرائيلي في المنطقة الصناعية القديمة بالقرب من قرية بيتونيا، جنوب رام الله.
"لن أبكي على هدم منزلي كما يعتقد الاحتلال، ولن يهزني هدمه، سيهدمون وسنبني في كل مرة، سأبقى صابرة رغم صعوبة الفراق والبعد عن أبنائي، بعد أن أصبح البيت فارغًا، وأصبحت وحيدة وأبنائي الستة في سجون الاحتلال" بهذا تختم أم ناصر حديثها.