تتخذ طريقاً التوائية طويلة بهدف وصولها إلى باحات المسجد الأقصى بسبب الحواجز الإسرائيلية ونقاط التفتيش، وبعنادٍ منها تنتقل من باب إلى آخر من أبواب المسجد الأقصى، فتحمل روحها على كفها حتى لو وصل بها الأمر أن تضحى بحياتها من أجل الوصول إلى عملها، فيتم منعها عند الباب الأول، لتغير مسار طريقها للباب الثاني فالثالث.
ولا يهدأ لها بال إلى أن تصل لطريق التفافية من بين البيوت المحاطة في المسجد المهم ألا تعود إلى بيتها دون أن تمتع نظرها يوميًا في النظر إلى قبته الذهبية، وتتنسم عبير هوائه لتترنح آلامها وهمومها جانبًا، فتنسى الدنيا وما فيها بين جدرانه، إنها نجوى الشخشير (50 عامًا) من سكان بلدة بيت حنينا الواقعة شمال مدينة القدس، والتي تعمل سادنة في قبة الصخرة المشرفة.
علاقة متبادلة معه
تسعة أعوام كانت كفيلة بتعلق قلبها بالمسجد الأقصى، لتنسج بينهما علاقة أقوى من علاقة الأم بطفلها، لتمتع نظرها بأجمل المساجد والعمارة الإسلامية، حيث التناسق والانسجام بين عناصرها المعمارية والزخرفية، حتى اعتبرت آية من الهندسة المعمارية، وما يزيد من عظمة الشيء أعمدتها الرخامية التي تقف بكل شموخ وكبرياء.
ما أن تحط قدميها في باحات المسجد الأقصى المبارك، وتقف قليلًا لترتاح ولتملأ صدرها بنسمات هوائه الذي ينسيها تعب هذه المغامرة، الشخشير واحدة من العشرات التي تعمل سادنة في المسجد الأقصى، فمهمتها هي الحفاظ على نظافة المسجد ورعاية مصلياته، بالإضافة إلى العمل على الحفاظ على نظامها وترتيبها.
فقالت: "أكثر ما كان يسعدني التجول في طرقات وشوارع مدينة القدس، ومن شدة تعلقي في هذه المدينة تتملك أحلامي ويقظتي، فراودني في طفولتي حلم أني أدخل المسجد الأقصى من باب السلسلة، حتى أصل لقبة الصخرة".
وأضافت الشخشير وهي أم لخمسة أبناء، وثلاث من البنات: "عندما تم قبولي للعمل كسادنة في المسجد الأقصى، أيقنتُ أني على موعد مع تحقيق حلمي، خاصة وأني عندما كنت صغيرة كانت جدتي تصطحبني معها بشكل دائم للصلاة في المسجد الأقصى، فكان ذلك أولى أواصر الترابط بينها وبينه".
ولم تستطع إكمال تعليمها بسبب ظروف عائلية ومرض والدتها الذي أجلسها بجوارها لتكون لها عونًا في القيام بالواجبات البيتية، لتتزوج وهي بعمر السابعة عشرة عامًا، وبعد مرور الأيام والشهور وتعاقب السنين ضاق بها الحال بعد مرض زوجها، فلم تجد معيلا يلبي طلبات بيتها وأطفالها فما كان منها إلا أن بدأت برحلة البحث عن عمل بدلاً من أن تحمل على كتفيها "جميل" أحد، فاعتمدت على نفسها.
وتكمل الشخشير حديثها: فلما ضاقت السبل في وجهي وفجأة وجدت نفسي في المسجد الأقصى واقفة بين يدي ربي أناجيه بأن يفرج همومي ويصلح حالي، ويرزقني بعمل أعتاش منه وعائلتي، وما أن فرغت من صلاتها وحملت روحها المنهكة لتعود بأدراجها إلى بيتها، وقبل أن تغادر أعتاب المسجد قابلها أحد موظفي وزارة الأوقاف وأخبرها بأنهم بحاجة إلى سادنة لتشغل شاغرًا بعدما تركت مؤخرًا إحدى العاملات، فدبت الروح في جسدها من جديد، وتحولت دموع الحزن واليأس إلى فرح.
تمسك وتعلق بالعمل
بقطعة قماش مبللّة تمسكها بين يديها وتدور وتتنقل بين رحايا المسجد الأقصى لتضفي لمساتها عليها وهي تمسح وتنظف وتزيل آثار الغبار عن الأعمدة والشبابيك والأبواب والأرفف، ومن ثم تتوجه لترتيب سجاد الصلاة والمصاحف والكتيبات.
ورغم أن هذا العمل يحتاج إلى صحة وجهدٍ كبيرين، ولعلك تعتقد أن امرأة في العقد الخامس من عمرها لا تقوى على مثل هذا العمل، ولكن ما أن تحط قدميها في رحابه تشعر كأنها صبية لم يتجاوز عمرها العشرين عامًا، وتقول في ذلك: "كأني ولدتُ من جديد" فتتنقل كالفراشة الملونة.
وتتابع الشخشير حديثها بصوت مبتسم يبعث الأمل: "فمن النادر أن أتغيب عن عملي، وأصبح لزامًا عليّ أن أكحل عيني برؤية بريق ولمعان قبة الصخرة، وعندما أكون متعبة ومريضة أذهب إلى هناك ليحتضنني بين أرجائه فأشعر بالراحة وكأن جبالا أزيلت عن صدري".
وتتحدث بلهجة ملؤها العزة والافتخار بأن تعمل كسادنة في بيت من بيوت الله، ليصبح كأنه احساس يربطها في علاقتها مع الله، قائلة: "أفتخر بعملي في هذا المجال، فهو الذي يزيدني شرفًا، فأجمل شيء أن يحب الإنسان عمله ليستطيع أن يتقنه بكل حذافيره لتسعد براحة البال".
وأضافت الشخشير: "ولو عرض عليّ عمل أكثر راحة من عملي في المسجد الأقصى فلا أستبدله بأي عمل آخر"، لذلك فهي تسعى بكل ما أوتيت من قوة أن توفق بين عملها وبيتها، فتنهض من فراشها قبل آذان الفجر لتنهي مهامها البيتية، وتلبي طلبات زوجها المريض، وأبنائها من الساعة السابعة حتى الثانية ظهرًا.
منغصات الاحتلال لا توقفها
هذا التعلق لا يخلو من منغصات الاحتلال الاسرائيلي ومضايقاته التي لا يتوقف عنها، رغم حملها للبطاقة التي تؤكد عملها في المسجد، إلا أن قوات الاحتلال المتمترسة على مشارفه تمنعها في كثير من الأحيان من الدخول ومواصلة عملها، لكنها في كثير من الأحيان تضرب أوامرهم في عرض الحائط فتحاول الدخول من باب آخر.
وعملها سادنة هذا لا يعني أن تقف متفرجة في حال حدوث اقتحامات من قبل المستوطنين وجنود الاحتلال، بل تسعى للدفاع عنه والتصدي لمحاولاتهم، ففي إحدى المرات تعرضت للضرب أثناء تصديها للاقتحام، وفي مرة أخرى قادوها للاعتقال.
وأكثر ما يحزن الشخشير ويقطع قلبها إربًا إربًا عندما تجد المسجد حزينا وجدرانه تبكي بسبب منع الاحتلال دخول المصلين، وما أن يعم بالمصلين لينقلب حزنه فرحًا، داعية الفلسطينيين والمسلمين إلى التواجد الدائم في المسجد الأقصى، حتى لا يعطوا فرصة للمستوطنين اقتحامه، متمنية أن تموت شهيدة في باحاته.