قائمة الموقع

بإعادة الحكم المؤبد..من يعيد لإيمان زوجها الأسير؟

2018-12-11T08:48:31+02:00

39 عامًا في سجون الاحتلال فرقت بين مرحلتين عمريتين لإنسان قضى جل حياته بين قضبان دخلها فتى لم يتجاوز السبعة عشر ربيعًا، تعكسها ملامح وجهه التي غيرتها سنوات السجن، فأكل الحكم المؤبد من عمره كما أكل الشعر الأبيض رأسه، ولا يزال الأسير نائل البرغوثي (61 عامًا) يتجرع مرارة السجن.

مرت أعوام ومحطات الحياة.. كبر الأطفال من حوله وأصبحوا آباءً وهو لا يزال بالأسر يعيش حياة معزولة عن العالم الخارجي، على أطلال السجن ومن خلف القضبان كان يتمنى العيش مع والديه ولو لحظة واحدة خارج الأسر، لكنهما توفيا وحرم حتى من دفنهم، كبرت شقيقته الطفلة "حنان" وأصبحت جدة، وهو خلف القضبان.

ثلاثة أعوام عاشها خارج الأسر بعد تحرره عام 2011م خلال صفقة التبادل التي جرت بين المقاومة والاحتلال تزوج خلالها، وتفاجأ بتغير أمور كثيرة شاهدها في العالم الخارجي لم يعرفها، فالسجون غيبته عن كل شيء، لكن الاحتلال لم يلتزم بالصفقة وأعاد اعتقاله وحرمه حتى من العيش فيما تبقى من عمره وأعاد له حكم المؤبد.

بداية المؤبد

الرابع من أبريل/ نيسان 1978م بدأت رحلة نائل البرغوثي مع عداد السنين وسنوات الأسر، لم يتجاوز حينها التسعة عشر ربيعًا، بتهمة القيام بأعمال مقاومة فحكم بالسجن المؤبد مدى الحياة و18 عامًا؛ اعتقله الاحتلال برفقة شقيقه عمر الذي كان متزوجًا ولديه طفل عمره عام اسمه "عاطف"، في حين كان عمر شقيقته حنان 13 عامًا، مرت الأعوام وخرج عمر من السجن عام 1985م، وبقي البرغوثي يتجرع مرارة المؤبد.

تدخل زوجة البرغوثي إيمان نافع، وهي تروي لصحيفة "فلسطين"، السجنَ، ولكن هذه المرة من بوابة الذكريات، ففي عام 1987 كانت مخابرات الاحتلال سعيدة باعتقالها، فأوعزت لإحدى القنوات الإسرائيلية بإجراء مقابلة معها، وتكمل: "شاهدني نائل بالمقابلة التي استمرت دقيقة وقرر بأن هذه الأسيرة "الشجاعة" يجب أن تكون زوجتي، وكان يتأثر بالقصص التي تحدث معي في الأسر".

لكن نائل بقي صامتًا بمشاعره التي احتفظ بها داخله لمدة عشرة أعوام حتى أفرج الاحتلال عن إيمان عام 1997م، تسحب بنا لتلك المحطة: "أرسل نائل أهله لخطبتي، ولم أكن حينها أعرفه ولم أسمع به ولم يحدث النصيب، لكنه عاد بعد مدّة وكرر الطلب مرة أخرى، وتساءلت عن الشخص المتمسك بي، وتعرفت إلى صفاته الرائعة من خلال الأسرى المحررين وشعرت بأنني يمكنني الارتباط بإنسان رغم أنه محكوم مدى الحياة".

سنة تطوي أخرى وتمر عشر سنوات وعشرون وثلاثون عامًا وأكثر، تتغير الحياة في الخارج، والبرغوثي لا يزال في سجن يغيبه عن العالم باستثناء بعض الأخبار التي يعرفها من الصحف العبرية، كبرت أخته حنان وتزوجت وأنجبت وأصبحت جدة، وهو لا يزال في الأسر أعزب يأكل الحكم عمره، حتى "عاطف" ابن شقيقه كبر وتزوج ورزق بأبناء.

كان من الصعب على الأسير رؤية شقيقه عمر الذي رزق بخمسة أبناء يعاني كثرة الاعتقال فيخرج ويعاد اعتقاله، وكان لدى عمر ابن اسمه "عاصم" اعتقله الاحتلال وحكم عليه 11 عامًا، وكان في غرفة واحدة مع عمه الأسير وتعلم منه اللغة العبرية، وحنان لديها ابن محكوم عليه بالسجن 15 عامًا، لتتجدد المعاناة مع الأسر لهذه العائلة.

"ايش جاي على بالك يما؟".. والدة نائل تسأله في إحدى الزيارات، فكان رده: "جاي على بالي أنام على تخت وأمد رجلي" مفاجئًا لها؛ فهي تعلم مساحة الغرفة الضيقة التي كان نجله مسجونًا فيها.

خاض البرغوثي كل إضرابات الحركة الأسيرة، عز عليه إضراب الأمهات في الخارج الذي كانت تقوده والدته لمساندة أبنائهم: "اذا ما بدكاش تضرب أنا بدي أضرب؟.. تحدثه والدته في أحد الإضرابات الذي شهد اختلافًا سياسيًّا بين الأسرى، فكانت تعد كل الأسرى أبناءها، وكانت شاعرة تعلم ابنها منها تنظيم ووزن القصائد الشعرية.

أصعب المواقف

في أحد الأيام، يتحدث أحد الأسرى مع آخر "تتذكر الختيار اللي حامل عكاز وبشارك بكل التظاهرات.. توفي اليوم"، سمع البرغوثي حديثهم وعرف أنهما يتحدثان عن والده، لا يمكن تخيل موقف لإنسان يحرم من مواراة الثرى لوالده، والقضبان تكبل حياته.

لم يكن هناك أصعب على البرغوثي من وفاة والده ووالدته، تأمل أن يخرج ويجدهم في انتظاره، يحتضنهم، يقبلهم، فهما لم يتركا فعالية وتظاهرة للأسرى إلا وشاركا فيها وتمنيا العيش مع ابنيهما الأسيرين، قبل الإفراج عنه أحضرت والدته المريضة في سيارة إسعاف -عبر الصليب الأحمر- لوداع ابنيها الأسيرين نائل وعمر، تضامنت معهما بكل قواها، كأي أم تمنت أن تعيش كعائلة مكتملة غير ناقصة.

بكى كل الأسرى من الموقف لكن نائل وعمر تماسكا لأجل والدتهما، أخفيا بكاء قلبيهما عن والدتهما وهما يعرفان أنه اللقاء الأخير، ينظران إلى أمهما الشجاعة التي كانت تعطيهما القوة وتساندهما في كل المحطات وترفع من معنوياتهما، تقف أمامهما ضعيفة أتعبها المرض، لا يستطيعان عمل أي شيء، ثم زارتهما بعد ذلك لكن كخبر أسكن الحزن في فؤادهما بوفاة أمهما، وما صعب الأمر عليهما أن تستقبل شقيقتهما حنان المعزين وحدها.

الثامن عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2011م، تنفس البرغوثي عبق الحرية بعد 35 عامًا في السجون الإسرائيلية، في إثر صفقة تبادل للأسرى جرت بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال بالإفراج عن أكثر من ألف أسير وأسيرة فلسطينية مقابل إطلاق المقاومة لسراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، كل شيء تغير، الأب والأم غادرا الحياة، الاحتلال جدد اعتقال شقيقه عمر في نفس يوم الإفراج، فبقيت فرحته بالحرية ممزوجة بالحزن والألم، لم يجد سوى أخته حنان تستقبله في الخارج.

كل شيء تغير

مر شهر على الإفراج عن البرغوثي وتزوج بإيمان نافع التي كان يتمنى الارتباط بها منذ شاهدها بمقابلة تلفزيونية عام 1987م على قناة إسرائيلية لحظة اعتقالها، اتحد القلبان وتزوجا بعرس وطني، 32 شهرًا عاشتها إيمان مع زوجها قبل إعادة اعتقاله عام 2014م، لم يتفارقا لحظة واحدة، إلا حينما كان يذهب للجامعة بعد أن قرر دراسة التاريخ، أو خلال تعلمه دروس القيادة، تحن لتلك الأيام: "كان مطلوبًا منا اختيار كل شيء لتجهيز بيتنا، فأمضى معظم وقته بالعمل في البيت وزراعة حديقته".

حتى قرية كوبر قبل اعتقال البرغوثي وهو لم يتجاوز 17 عامًا تغيرت كثيرًا بعد اعتقاله، تفاجأ بعد تحرره بالسيارات والبنايات السكنية وعدد الناس والحافلات والمنازل والمدارس والجامعات، فلم يكن في أيامه سوى سيارات ومنازل قليلة ومتباعدة، حتى غاز الطهي كان بالنسبة له شيئًا غريبًا.

حاول البرغوثي تعويض ما حرمته منه سنوات السجن، تعجبت زوجته حينما شاهدته يسبح لأول مرة في حياته وكيف لم يرد الخروج من المسبح، وبدأ يتعلم قيادة السيارة، والدراسة الجامعية.

مع الثلج والحياة

ليس غريبًا على أسير حرم نعيم الحياة، وغيبته السجون عن كل شيء جميل، أن يتفاجأ بسقوط الثلج لأول مرة، لا تنسى زوجته ذلك، ارتدى البرغوثي ملابس شتوية ووضع "الكفوف" في يديه، وما إن بدأت الأرض تكتسي بالثلوج واللون الأبيض، حتى خرج يلعب مع الأطفال بالثلج، ينادي على زوجته بالخروج للعب معه، فيجمع دلوًا من الثلج ويذيبه ويشرب منه، أحب القطط لأنها الشيء الوحيد الذي شاهده داخل وخارج الأسر وعاش معه مراحله العمرية كافة.

لكن في هذه المدة مرت بعض المواقف الطريفة، تذكر أحدها ضاحكة: "لكونه حرم من الحياة ورغم حبه لتعلم قيادة السيارات، إلا أنني أعطيته سيارتي لإحضار شقيقته ذات يوم، فحينما وصلت سمعت صوت ارتطام، فخرجت مسرعة فوجدت السيارة مصطدمة بجدار المنزل، وكان متوجعًا، ومرة أخرى قاد السيارة على الطريق العام وتلامس مع عجل شاحنة (...) كنت أذكره وأقول له أنت ضربت السيارة فيبتسم ضاحكًا".

لكن ما أكثر ما أوجع قلب نافع؟ لا تخفي في إجابتها أنها كانت تتألم حينما تراه يجلس في الأرض الزراعية التي ورثها عن والده، وهي ترى الدموع تبلل وجنتيه دون أن يراه أحد، كان يتمنى أن يعيش ولو لحظة واحدة معهم، "كنا نحب المشي والخلاء والذهاب للأرض وزراعة الزيتون"، تقول.

في إحدى المرات، يجلس البرغوثي على شرفة المنزل، سمعت زوجته صوت صراخ، لحظة لا يمكن نسيانها: "ذهبت مسرعة إليه فوجدته يصرخ في إثر قرصة عقرب، سندته إلى كتفي وأخرجته للسيارة واستطعت علاجها لكوني ممرضة سابقة".

الثامن عشر من يونيو/ حزيران 2014م، البرغوثي على موعد مع ألم جديد، اعتقلته قوات الاحتلال وحكمت عليه بالسجن 30 شهرًا، انتهت المدة وتوقع الجميع الإفراج عنه، لكن الاحتلال مدد الاعتقال لشهرين، ثم أصدرت محكمة الاحتلال حكمًا بإعادة حكمه السابق (مؤبد و18 عامًا) في خرق واضح لصفقة التبادل التي شهدت رعاية مصرية.

تقول: "صدمنا بالحكم، كنا نتأمل أن يخرج، دخل اليوم عامه التاسع والثلاثين في سجون الاحتلال التي لا تزال تطوي عمره بعد أن بلغ 61 عامًا، وتتواصل معاناته بسجن هداريم وعدنا للتواصل من خلال الزيارات إن سُمح لي أو الرسائل والإذاعات".

يكتسي صوتها بالألم: "لم نعِش مع بعضنا بعضًا، حرمنا الاستقرار والعيش وتكوين أسرة، والسفر وزيارة المسجد الأقصى، كنا نتمنى زيارة أريحا، وأن نشتم الهواء الطلق ونعيش حياة طبيعية دون قلق كبقية العالم".

اخبار ذات صلة