من خلال تجربة عمرها أكثر من ثلث قرن مع الإدارات الأمريكية، تكرس تقليد بقوة القانون على مستوى قمم الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهي أن أي رئيس يصل البيت الأبيض، فأول ما يتحدث به في شأن السياسة الخارجية هو الوصول إلى حل للصراع في الشرق الأوسط، ورفع الظلم التاريخي والأخلاقي والسياسي الواقع على الفلسطينيين.
وقد شهد ثلث القرن الماضي تسابقًا بين الرؤساء، في إظهار الالتزام بالعدالة والسعي لتحقيقها، حتى أن جائزة نوبل للسلام منحت لمرتين كما لو أنها جائزة للفشل في تحقيق السلام كما فعل الرئيس السابق باراك أوباما، أما إدارة دونالد ترامب الحالية فهي على عكس كل الإدارات السابقة ولم يسبق لها مثيل في الكره والعداء للشعب الفلسطيني، فهي لا تتوقف عن اتخاذ المزيد من القرارات والإجراءات التي تهدف لتقويض كل الحقوق الفلسطينية التي رتبتها الشرعية الدولية عبر عشرات القرارات، خلال أسبوع واحد بعد تسلمها الحكم في الولايات المتحدة تتخذ قرارًا بوقف تمويل المشاريع في الأراضي المحتلة بقيمة مئتي مليون دولار سنويا، وتتبعها بقرار آخر بالتوقف عن تمويل "أونروا".
من الواضح أن الولايات المتحدة قد تجندت بكل قوتها لنسف المرجعية القانونية الدولية للحقوق الفلسطينية، بل لجزء من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
أمريكا تعلن الحرب على الفلسطينيين، وتسعى لتنفيذ حصتها من المخططات الإسرائيلية، التي تستهدف تنفيذ كل ما يتطلبه قانون أساس القومية العنصري، الذي ينفي حقوق ووجود الشعب الفلسطيني.
في خطوة متقدمة نحو الإنهاء المتدرج لوجود "أونروا"، لا تكتفي الولايات المتحدة بوقف حصتها الكبيرة من التمويل، وإنما تتجه نحو إعادة تعريف اللاجئ بما يختصر عددهم في نحو خمسة ملايين ونصف المليون، إلى نصف مليون في الوقت الراهن، لكن مرور المزيد من السنين فإن هذا العدد سيتناقص وفقا للتقنين الأمريكي.
وفي إطار التفكير والعمل المشترك، تستجيب الإدارة الأمريكية لطلب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، بأن تؤجل الولايات المتحدة حربها على "أونروا" في غزة، طالما يعمل الطرفان على استثمار ما يسمى الأزمة الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية ذات صلة وثيقة بصفقة القرن.
أما في الضفة الغربية فإن الولايات المتحدة تعمل على وقف خدمات "أونروا"، وربما تطالب (إسرائيل) بإلغاء مؤسساتها ووجودها هناك، لأن المخطط المشترك يستهدف في الأساس الضفة الغربية.
المعركة مستمرة ضد الفلسطينيين وحقوقهم ويصل الأمر بجيسون غرينبلات أن يحذر بل يهدد السلطة من أن الإدارة الأمريكية يمكن أن تلجأ إلى بدائل للسلطة إن امتنعت عن أن تكون شريكًا في غزة المستهدفة بإعادة التأهيل. حين تضع كل هذه السياسات والإجراءات والمواقف التي تتخذها الإدارة الأمريكية، ستصل إلى نتيجة واضحة وهي أن ترامب لم يخرج عن جوهر السياسة الأمريكية، التي اعتمدتها إدارة بوش الابن من خلال ما يعرف بوثيقة الضمانات التي قدمها شارون ووافق عليها بوش في نيسان 2004.
قد يقال إن بوش هو صاحب خارطة الطريق وأن إدارته تبنت رؤية الدولتين ولكن التدقيق في أبعاد ما تضمنته وثيقة الضمانات، من شأنه أن يصل إلى حقيقة أن الحديث عن رؤية الدولتين في أمريكا ليس سوى عنوان للتضليل والخداع، لأنها والإدارة التي خلفتها لم تفعلا شيئًا لوقف السياسة الإسرائيلية التي تطيح بكل أساس لإقامة سلام يحقق رؤية الدولتين.
الفارق الوحيد بين تلك الإدارة وإدارة ترامب هو أن الإدارة الأخيرة جاءت في مرحلة متقدمة من نجاح المخططات الإسرائيلية، وأنها تمتلك الوقاحة لمغادرة منطق التردد والتضليل إلى منطق الحسم والوضوح.
ماذا يريد ترامب وإدارته الأكثر صهيونية من الفلسطينيين تحديدًا؟ إنه باختصار يريد توقيعهم على الحل النهائي المستهدف لقضيتهم، والمسألة هنا تتصل بالقدرات وليس بالوعود، والقدرات في هذا الشأن لا تتحدد بمحصلة إمكانات الدولة العظمى، ولكن بقدرة صانعي القرار الشرق أوسطي فيها على الإفلات من القبضة الصهيونية، ذات الأصابع المتمكنة من داخل الصالون الخاص لأي رئيس إلى كل زاوية من زوايا مؤسسات صنع القرار في الشأن الفلسطيني الإسرائيلي.
فحين طرح ترامب مقولته حول استطاعته تحويل المستحيل إلى ممكن بشأن القضية الفلسطينية، إلا أنه لم يقصد إنصافه بل إضعافه بكل ما أوتي من قوة وغطرسة بشطب حقوقه المشروعة وشن حرب بلا هوادة على منظماته وحركاته الوطنية التي تناضل لطلب الحرية والاستقلال، يعني هذا أن إدارة ترامب تضع نفسها بديلا الاحتلال وتضع نفسها وشعبها في مقدمة ظلم الشعب الفلسطيني، وبما أنه شمّر عن ساعديه لإدخال يده في عش الدبابير، دون أن يكترث باللسعات التي أورمت يد كل من سبقوه، فبديهي أن يحتفي بكل زعماء الشرق الأوسط الذين يأمل أن يساعدوه في تحقيق المعجزة وإنجاز الحل. فهكذا يعمل رجال "البزنس" إذا ما أحبوا اختصار الطريق وبلوغ النهايات بأسرع وقت ممكن.
يدرك الفلسطينيون مدى أهمية النشاط على المستوى الدولي لمحاصرة الولايات المتحدة التي تدخل بسبب حماقة إدارتها، في معارك مع المجتمع الدولي الفاعل الذي يعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها ويكفل حقها في مقاومة الاحتلال. فمع الإدانات الدولية لقرار ترامب لا تزال إدارته الموهومة تتبجح بأنها ما زالت ملتزمة بعملية "السلام" وتريد إصدار مؤلف لها جديد اسمه صفقة القرن، في محاولة لذر الرماد في العيون، فأي سلام ذلك الذي يريد صنعه ترامب، الذي وضع نفسه موضع العداء السافر للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وللأمتين العربية والإسلامية، ولأحرار العالم؟ وأي سلام هذا الذي سيقوم على تزوير التاريخ وطمس الهوية العربية الإسلامية للقدس؟ وأي سلام هذا الذي يمكن أن يصنعه رئيس أمريكي وضع نفسه في خدمة الأجندات الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي غير المشروع؟ الإجابة هي "من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه".
أما على المستوى الفلسطيني يجب أن ندرك تمامًا أن بأيدينا، إذا ما توحدنا لمواجهة التحديات، فما أدى إلى تعامل الإدارة الأمريكية بهذا الانحياز لصالح لاحتلال هو تنادينا بالتدخل في شؤوننا الداخلية ويعرفون عن خبايانا أكثر مما نعرف نحن، لهذا فبين أيديهم دائمًا باب للهرب حين لا يحالفهم النجاح فيما وعدوا به، باب الهرب هذا وبكل أسف فلسطيني بنسبة مئة بالمئة، هو الانقسام الذي أجاد نتنياهو استثماره في إنكاره شراكة عباس في الحل وتشديد قبضة الحصار على غزة وتهويد القدس وإنكار حق العودة.