فلسطين أون لاين

"جنون العظمة" لا مكان له تحت الشمس

من كان يستمع إلى التهديدات الإسرائيلية السابقة بشن عملية عسكرية واسعة النطاق على قطاع غزة ما لم يوقف الفلسطينيون مسيرات العودة ويكفوا عن إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة تجاه المستوطنات والتجمعات السكانية الإسرائيلية يتهيأ لنا أن حربًا ضروسًا ينوي جيش الاحتلال الإسرائيلي شنها على غزة وللإيحاء بأن حكومة نتنياهو جادة في تهديداتها بحشد مئات من الدبابات والمدرعات على مقربة من الحدود مع القطاع، وأعلنت حكومة نتنياهو المصغرة أنها خولت الجيش الإسرائيلي بتنفيذ قرارات صارمة تم اتخاذها بخصوص غزة.

ولكن بعد فشله الأول في عملية شرق خانيونس ثم فشله مرة ثانية في النيل من غزة بقصف متواصل لثلاثة أيام من الجو والبر والبحر أثبت أنه غير قادر على تحقيق أهدافه ووصوله لتحقيق أي إنجاز على أرض غزة لربما يستخدمه ورقة رابحه لتسويقه في دعايته الانتخابية أو ما شبه ذلك، لكنه اضطر إلى وقف إطلاق النار وعدم اتباع خطوات الشيطان والانجرار وراء أوهامه وإطالة أيام العدوان وتكبد خسائر فادحة دون طائل ولا أهداف على غرار الحرب السابقة، وعندها سيخضع لتقرير «فينوغراد» (2) الأمر الذي سيزيد عليه التهم إضافة إلى التهم التي تلاحقه في الشرطة والقضاء.

وهنا يأتي السؤال لماذا فرض رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، صمتًا شبه مطلق على مجمل وزراء حكومته لعدم إدلاء بأي تصريح؟ حيث انتدبت حكومة الاحتلال بشكل شبه حصري الناطق العسكري للجيش، رونين ملنيس، ليتحدث عن الميدان إضافة إلى تعداد الأهداف التي أصابتها الغارات الإسرائيلية على القطاع، والتي قدّرت، بحسب الاحتلال، بأكثر من 150 هدفًا تابعًا لحركة حماس والجهاد الإسلامي من جهة، ومحاولة رفع الروح المعنوية من جهة ثانية، وخفض مستويات الهلع والخوف لدى سكان المستوطنات الإسرائيلية، سواء المحيطة بقطاع غزة، أم تلك البعيدة الواقعة في الدائرة الثانية والتي طالها القصف للمرة الأولى، مثل سديروت ونتيفوت وعسقلان.

بل إن ما آلم قادة الاحتلال حقًّا أنه مباشرة بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة فوجئ الاحتلال مع حلول عصر الجمعة أن مسيرات العودة انطلقت كما هو معتاد للأسبوع الحادي والثلاثين على التوالي بمشاركة عشرات آلاف الفلسطينيين وبزخم أكثر وأكبر من ذي قبل استجابة لقرار من اللجنة المنظمة للمسيرات في تحدٍّ واضح للعنجهية الإسرائيلية التي لم تعد تخيف أهل غزة فيما لم تنفذ (إسرائيل) تهديداتها بشن عملية عسكرية لا واسعة ولا محدودة وأن كل ما تقوم به هو عبارة عن حرب نفسية فاشلة تؤشر إلى حالة من العجز الاستراتيجي عن قمع مسيرات العودة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني.

إننا لسنا بحاجة لشهادة اعتراف أو إعلان رسمي من نتنياهو عن العملية الأمنية شرق خانيونس، سواء اعترف قادة الاحتلال أم يعترفوا فالنتيجة واحدة مفادها الفشل الذريع الذي مني به وقواته الخاصة كون هذا الأمر عنده مكروهًا أن يعترف بالهزيمة من الناحية السياسية، خاصة أنه يقطع الطريق على رسل (إسرائيل) وأدواتها العاملين في البلدان العربية لترويج أسطورة «الرعب» الإسرائيلي والدعوة إلى الانصياع لها تحت طائلة العقاب والقتل والتدمير، فـ(إسرائيل) بزعمهم «قادرة على فرض ما تريد سلماً أو حرباً» بسبب الخنوع لما تسميه «قوة الردع» التي تخيف بها العرب والعجم، رغم أنه بات معلومًا لدى الإسرائيليين أنفسهم أنها عبارة عن خرافة ليس إلا، فقد اعترف محرر الشؤون الأمنية في صحيفة (إسرائيل اليوم): أن «جنون العظمة» أصبح يورد أصحابه المهالك وأن «الردع» تراجع كثيراً.

أليس هذا أيضا اعترافا صريحا حين يقول نائب الوزير حرب الاحتلال داني دنون: «إنّ العملية العسكرية على غزة فشلت وديست كرامتنا»؟ وهو يحمّل المسؤولية لنتنياهو في هذا الأمر، وبهذه الجملة القصيرة، معطوفة على مجريات الميدان ونتائجه، بأن «القوة باتت عاجزة عن تحقيق أهدافهم العدوانية»، وأن هيبة (إسرائيل) تآكلت ولم تعد تكفِ لحمايتها.

لا شك أن اهتزاز صورة «قوة الردع» الإسرائيلي في كل من لبنان وفلسطين، سيؤدي في النهاية إلى سقوطه، وبالتالي إلى انهيار ثقة المجتمع الإسرائيلي بمكانة «الجيش الذي لا يقهر» ومن ثم بعقيدة القوة والأمن، بالإضافة لمحدودية فاعلية الردع النووي الإسرائيلي في المرحلة الراهنة، الذي أصبح عالة وأصبح أمنها وأمن مواطنيها أكثر عرضه للتآكل على المدى المتوسط والبعيد بفعل المجازفات العسكرية المتهورة، لهذا تجدها في حالة هلع مستمر عند كل فشل عمل أمني وعسكري تجري مناورات وتدريبات لتطوير جيشها وعقيدته العسكرية. وفي هذه المرحلة لم يعد العمق الاستراتيجي الذي حققته باحتلال أراضٍ عربية في القرن الماضي كافياً لمنع التهديدات الداخلية والخارجية من المس بالجبهة الداخلية الإسرائيلية.

وكانت نتائج الحروب الأخيرة على غزة دليلا قاطعا على تآكل «قوة الردع»، حيث كانت مغايرة ومختلقة عن التوقعات الإسرائيلية، ففي كل عدوان يتم استخدام سلاح الجو بشكل مكثف والقصف الصاروخي بمختلف أنواعه وقوته، والذي طالما اعتبر السلاح الرئيس والمفضل في الحروب الإسرائيلية الاستباقية والخاطفة، ورغم التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح إلا أن (إسرائيل) لم تستطِع تطبيق مفهومها بحسم المعركة، أي تدمير قوات (العدو) واحتلال أراضيه -كما كانت تفعل سابقا- فكل ما تفعله تدمير بعض المواقع والمؤسسات ومنازل المواطنين، وأكدت نتائج الحرب الأخيرة عدم قدرة سلاح الجو الإسرائيلي مهما بلغ من تسليح واستخدام واسع للتقنيات الحديثة على حسم المعركة، كما وصفها نتنياهو في كتابة «مكان تحت الشمس».

فإذا كانت حرب 1973 أسقطت مفهوم أو نظرية «الحدود الآمنة» فان حروب غزة الأخيرة أقنعت الإسرائيليين، أنه لا أمن في أي حدود ترسمها انتصاراتها العسكرية، أو أي نظرية أمنية ابتدعتها من قبل، وأنه لا بد عاجلاً أم آجلاً أن تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.