بما أن سنة الانتخابات بدأت تدّق الأبواب، فمن الطبيعي أن يبدأ الانشغال في (إسرائيل)، مع افتتاح الدورة الجديدة للكنيست، بالأحزاب والحركات السياسية، سواء التي في الائتلاف الحكومي برئاسة حزب الليكود أو التي في المعارضة. ولا يقتصر هذا الانشغال على احتمالات هذه الحركات والأحزاب في الانتخابات الوشيكة، وإنما يتعدّى ذلك للخوض في هوياتها السياسية.
ووفقًا لقراءاتٍ كثيرةٍ، لم يعد ما يعرف باسم "اليسار الصهيوني" قائمًا، على الأقل منذ أن عبرت (إسرائيل)، عام 2005، "انقلابًا سياسيًا" ترتّب، ضمن أشياء أخرى، على خطة "فك الارتباط" عن قطاع غزة التي طرحها رئيس حكومة الاحتلال السابق، أريئيل شارون، واصطاد سياسيًا من خلالها ليس أطرافًا خارجية فحسب، إنما أيضًا اصطاد أطرافًا إسرائيلية، لم يكن حزب العمل الوحيد بينها من خانة أحزاب اليسار تحديدًا. وثمّة من يعتقد أن هذا "اليسار" اختفى من الواجهة، في أثر التحاقه الكامل بخطة شارون السالفة، بموازاة هروبه من استحقاقات تحديد البحث حول هويته.
وما زلت أذكر أنه، في ثنايا مقال استمزاجي عن اختفاء ذلك "اليسار" في ذلك الوقت، نشرته صحافية إسرائيلية في صحيفة هآرتس، كتبت، بنبرة فيها قدر كبير من المفارقة الساخرة، إن من بين القلائل الذين ما زالوا يؤمنون بوجود "يسار مؤثر" في (إسرائيل) بنيامين نتنياهو، وزير المالية المستقيل. "فهو في الواقع يؤمن بوجود اليسار من كل قلبه. وفي خطابه الأخير الذي ألقاه في مركز الليكود، تحدث عن أنه إذا خسر الليكود الحكم، فسنحصل على بيريس وبيلين". وتابعت: "ذات مرة كان ذلك (أي التهديد بعودة اليسار إلى سدّة الحكم) يُستقبل في اليمين تهديدا فظيعا ومخيفا، إلا أنه الآن يبدو أشبه بمقطع ساخر وهزليّ. وحتى اليسار نفسه لا يؤمن بأن ذلك قد يحدث، وهو أيضًا لا يرغب في ذلك تمامًا". والاستطلاع الذي أُجري فور الانتهاء من "فك الارتباط" مع قطاع غزة أظهر أن 50% من ناخبي حزب ميرتس (على يسار العمل) عبروا عن رغبتهم في استمرار وجود الحكومة الحالية. وقال غالبية المنتسبين إلى حزب العمل إنهم يريدون أن يخوض حزبهم الانتخابات العامة المقبلة في قائمةٍ يترأسها شارون.
ما يجب استنتاجه أن أزمة "اليسار الصهيوني" راجعة أكثر شيء إلى أزمة هويته، فهذا اليسار الذي يشخّص عن اليمين، خلافًا لليسار في دول العالم، فقط بموجب موقفه من "عملية السلام" انقاد بشأن هذه العملية وراء الرواية التي صاغها رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك، وهو نفسه أحد "رموز" هذا اليسار، وسيطرت بكثافة، حتى لا نقول بإطلاقية، على السجال السياسي والإعلامي.
وكما سبق أن قال أحد الباحثين، كل ما جرى الكشف عنه عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 لم يكن أكثر من جملة مزاعم تبسيطية، تقاسمها اليسار واليمين على حد سواء، وهذان شكلا معًا الإجماع في السجال السياسي الإسرائيلي. أما المطالبة بإجراء نقاش عمومي معمّق حول الأسئلة الأساسية، فيمكن عبره مواجهة سحب الضباب الداكنة التي دأب على نشرها ناطقون رسميون بلسان المؤسسة الحاكمة في مناسباتٍ من الصعب حصرها، فكانت من نصيب أفراد قلائل فقط ضاعت أصواتهم هباء في الزحام.
فضلًا عن ذلك، لم يرفع هذا "اليسار الصهيوني" الراية الحقيقية بشأن التخلّي عن احتلال 1967، ورموزه هم أنفسهم الذين بشّروا في أثناء سنوات أوسلو بأن الاحتلال انتهى عمليًا، وأن ما تبقى هو بضع سنوات من المفاوضات فقط. وهم، برأي كثيرين، خبراء في إقناع كل من هو مستعد لإصاخة السمع لهم بأن الملك ليس عاريًا، و"أن المشكلة كامنة فقط في عيون الرائين".
وحتى لدى عودة "اليسار الصهيوني" إلى الحديث عن احتلال 1967 فإن الغاية القصوى للالتفات إلى هذا الجذر تبقى، في العمق، صرف النظر والاهتمام عما ينطوي عليه هذا الاحتلال كذلك من ثابتٍ ومتغير في السياسة الإسرائيلية الرسمية المؤدلجة بالصهيونية.
(العربي الجديد)