ارتقى الشهداء في غزة خلال الأيام الماضية، وكل يوم سترتقي دفعة جديدة من الشهداء لباريها، ويوميًّا ستضاعف قوات الاحتلال الإسرائيلي همجيتها وعدوانها، ولكنها لن تستطيع أبدًا وإن تغيرت المعادلات أن تزحزح طفلًا فلسطينيًّا عن أرضه ولن تستطيع قوة النيران التي تقصف غزة يوميًّا إقناع أهل القطاع وكل فلسطين رفع الراية البيضاء، والتسليم بالواقع العربي والغربي الصامت عن حق شعب في الحصول على استقلاله، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
في غزة، كما في فلسطين التاريخية كلها، وفِي جنين والخليل والقدس ونابلس يقين أن الظروف وإن انقلبت، والنفوس العربية وإن تغيرت، والموازين الدولية وإن تبدلت، سيبقى الحق واضحا، وستبقى الأرض يوميا تنجب أبطالا يضحون بحياتهم لإدامة نبراس قضيتهم، ورفع علمهم، وإقامة دولتهم المستقلة على تراب أرضهم المحتلة، أولئك لا يعنيهم إن فتحت عواصم عربية أحضانها لإرهابيي الاحتلال، أو نطق بعض الأعراب انتصارا للاحتلال أو دعما له، أو غرد البعض الآخر ضد حق واضح دفع شعب بأكمله من دمه آلاف الشهداء للوصول إلى حقه بالحياة.
الاحتلال الإسرائيلي يعتقد جدلا أن خطوط التواصل التي فتحها، والحماية الدولية التي يوفرها له ساكن البيت الأبيض في واشنطن يجعله أقوى بطشا، ويتركه يفعل ما يشاء وقتما شاء، ويضعف مقاومة شعب بات مجبولا على مقاومة الاحتلال والتصدي لغطرسته بصدور عارية تارة، وبمعدات أولية تارة أخرى.
فرغم كل الهزائم التي مني بها العرب والفلسطينيون منذ النكبة إلى حزيران عام 67 إلى أيلول الأسود إلى احتلال بيروت ثم تدمير العراق وسوريا، وعدد من الدول العربية، وعقد صلح مع مصر والأردن، رغم كل هذا النزيف المستمر، إلا أنه ورغم كل ما ذكرناه آنفا، فإن القضية الفلسطينية لم تنتهِ، وبعد كل مواجهة جديدة، تعود من جديد شاخصة تطالب بحل رغم النزيف المستمر، والذي لا يمكن وقفه، لا بحملة عسكرية جديدة، ولا بحملات، ولا من خلال حكومة جديدة متطرفة أو أكثر تطرفا، ولا بوزير حربية أقل أو أكثر دموية، فالمشكلة الفلسطينية مشكلة شعب طرد من دياره عنوة، يرى أبناء هذا الشعب وطنهم أمامهم بالعين المجردة، وطنهم الذي سلب منهم وطردوا منه بالقوة، بينما هم محرمون من الاقتراب منه إلا كمتسللين، أو كسائحين، وفي أحسن الأحوال كعمال أجيرين، بينما تكتظ بهم مخيّماتهم حتى الاختناق، وهذا يعني أن المشكلة ليس لها حل ولن يكون، إلا باقتلاع سببها من جذوره.
الاحتلال أكثر الناس يعرفون غزة العنيدة التي لا تعرف الاستسلام على مر الأزمان، وها هي صامدة في وجه الاحتلال والحصار والعدوان، فلا يوجد ما تخسره، ولن يلتفت من اختار المقاومة طريقا له لتحقيق هدفه والوصول لاستقلاله وكنس المحتل، لن يلتفت لتصريحات وإدانات العرب والغرب المستهلكة، التي بات يعرفها عن ظهر قلب، ولن ينتظر أن تجتمع الأمم المتحدة لوقف العدوان، وهو يعرف أن ذات المنظمة التي أصدرت قرارات مختلفة ضد وجود الاحتلال دون أن تمتلك القدرة على تنفيذ أي منها، والحقيقة المستقرة لدى الاحتلال الإسرائيلي وقادته أن جذوة المقاومة لن تكسر طالما بقي الاحتلال في الأرض المحتلة، وطالما ولد طفل فلسطيني لجأ أهله من قريته عام 1948 وما يزال مزروعا في يقينه أن الأرض أرض آبائه وأجداده.
إن تهديدات نتنياهو ليس جديدة على أهالي غزة المحاصرين منذ 12 سنة وقد صمدوا أمام أربع حروب، صحيح أن أي عدوان جديد لن يكون مصيره إلا على غرار سابقه بكلِّ تداعياته المأساوية من دمار وضحايا وتهديد أمن واستقرار المنطقة، والاحتلال أول من سيتأثر به، فغزة والشعب الفلسطيني عمومًا لن يغرقا في البحر ولن يرفعا الراية البيضاء، بل إن أي عدوان جديد سيؤكد ضرورة وضع حدٍّ للعدوان وسيفرض معادلة جديدة مفادها القوة مقابل القوة.