تسبب القصف الإسرائيلي العنيف على شرق خانيونس الليلة قبل الفائتة عقب اشتباك مقاتلي كتائب القسام مع القوات الخاصة الإسرائيلية، في ارتقاء 7 شهداء، وإصابة آخرين بجراح مختلفة، في حين أعلن جيش الاحتلال عن مقتل أحد ضباطه وإصابة آخر بجراح خطيرة.
الواضح أن الاحتلال يسابق الزمن لتنفيذ العملية، قبل إتمام أي تفاهمات ميدانية في القطاع، للخروج بصورة انتصار، لكن كما يقولون: "لم تسلم الجرة في كل مرة"، فهل وضعت قيادة جيش الاحتلال ومخابراته فرضية تفيد بفشل العملية، ولو بنسبة واحد بالمائة، وأن ثمن هذا الفشل سيكون من دماء جنود وضباط النخبة الإسرائيليين؟
فقد أقر مراسل إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي تساحي دبوش، بأن "العملية التي نفذها جيش الاحتلال مساء الأحد في شرق خانيونس، فشلت على الرغم من أن ليبرمان جرد من بعض الصلاحيات بما يخص غزة، من أجل تضليل حركة حماس ودفعها لعدم أخذ الاحتياطات اللازمة"، وتحليلها مرة أخرى أنه لا يمكن تنفيذ هذه العملية دون الحصول على تصريح مسبق من نتنياهو الذي كان موجودا في باريس وقت وقوع العملية الأمنية. وذكر دبوش، أن نتنياهو حاول خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في باريس، أن يدفع حماس للتراخي من خلال دفاعه عن التهدئة وموافقة ألمانيا على بعض شروطها وتكريس انطباع أنه غير معني بالتصعيد، لكن الأمور جاءت بعكس ما خطط له". فهل من شك في عدم علم نتنياهو المسبق بعملية شرق خانيونس الأمنية، بل إنه اختار هذا التوقيت بالذات لتضليل الرأي العام الدولي، وقطع الزيارة بهدف كسب التعاطف وحجب الإدانات الدولية، هذا هو نهج زعماء الاحتلال العدواني.
فلو رجعنا إلى الوراء مدة قصيرة لنتذكر كلام وزير الحرب الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، حين أعلن أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أمس الاثنين، أنه لا يوجد قرار إسرائيلي بإنهاء العدوان على غزّة، في حين انبرت الصحف العبرية إلى تقييم العدوان الذي فشل في تحقيق أهدافه أو ضرب حركة المقاومة الفلسطينية.
وأشار ليبرمان أيضا إلى ثلاثة خيارات للعدوان، الأول هو الوصول إلى اتفاق أو "ترتيب معين" لوقف إطلاق النار، والثاني هو إخضاع حركة "حماس"، والثالث هو الوصول إلى حالة من الفراغ تتمثل في "إطلاق "حماس" الصواريخ والردّ عليها"، حسب تعبيره، وهذا يعني مواصلة العدوان، غير أنّه أضاف أنّ الخيار الأخير غير ذي صلة.
وعلى الرغم من تصريحات ليبرمان وأمثاله بخصوص تواصل العدوان، فإنّ المحللين الاسرائيليين بدؤوا في عمليات جرد حساب للعدوان، مع الإشارة إلى أن "رصيد الحصانة" الذي تمتع به حكومة بنيامين نتنياهو قد بدأ ينفد، وأن أصوات خصومه الحزبيين سترتفع بلهجة أشد وأعلى في محاولة النيل من إدارته العدوان المكلف سياسيا والباهظ ماديا والكاذب معنويا والفاشل عسكريا، بل إن هناك قطاعا عريضا في (إسرائيل) يشكك في نجاح حكومة نتنياهو في تحقيق الأهداف السياسية والأمنية المرجوة من كل عدوان على غزة، والآن علت أصوات في صفوف المستوطنين خاصة في غلاف غزة المذعورين بأنهم أكثر المتضررين من سياسة حرب الاستنزاف التي تسبب بها نتنياهو وليبرمان.
ثم جاءت تصريحات الوزير جدعون ساعر، الذي يحظى بتأييد كبير داخل صفوف "الليكود"، والتي انتقد فيها وقف إطلاق النار والانسحاب الجزئي لقوات الاحتلال، لتشكل بداية الخروج العلني على نتنياهو والطعن في أحقية بقائه على رأس "الليكود"، هذا بالنسبة للتنافس داخل الحزب.
لكن إلى جانب "الحروب الداخلية"، فإنّ معلّقين في الصحف العبرية على رأسهم سكرتير رابين سابقاً، إيتان هابر، الذي أشار إلى أنّ محاولات حكومة نتنياهو التلاعب والمراوغة، والالتفاف على حقوق الفلسطينيين، لن تُجدي نفعاً؛ إذ إنه لن يكون هناك مجال لاستعادة الهدوء دون رفع الحصار وإنعاش أهالي غزة. وعليه، فإن السيناريو المطروح الآن، ليس العودة إلى قطاع غزة مرة أخرى وتحمل أعباء الاحتلال وتكاليفه الباهظة.
وإذا كان هابر يكتب انطلاقاً من ابتعاده عن اليمين المتطرف، والخلاف الفكري معه، فإن المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوسي يهوشواع، يؤكّد أن كل من ظن أن مواصلة الحصار والعدوان على غزة ستقود إلى عودة الهدوء قد أخطأ، مضيفاً أنه "من دون التوصل إلى اتفاق معين، سيتواصل القتال بين الطرفين، ومن غير المستبعد أن تستمر حرب الاستنزاف هذه طويلاً، لأنه ليس واضحاً أصلاً في هذه المرحلة من سيوقف إطلاق النار".
ويقول يهوشواع: إن قادة الجيش الإسرائيلي يصرّون على سرد الإنجازات العسكرية. يجب أن يستعدوا جيدا لمواجهة عاصفة التساؤلات التي ستطلقها الصحافة الإسرائيلية حول العملية الأمنية في خانيونس على غرار فشل الحرب الأخيرة على غزة التي استغرقت واحدا وخمسين يوما دون تحقيق بنك الأهداف.
وفي هذا السياق، عد المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل، أن وحدة الحال بين قادة الجيش، وتحديداً رئيس الأركان، بيني غانتس، ونتنياهو وليبرمان ومعهم رئيس "الشين بيت"، مفهومة للغاية؛ فهذا الرباعي شكل الفريق الذي ينفذ العمليات الأمنية، وعليه فإنهم في مركب واحد، خاصة في ظل حديثهم عن الامتناع عن إسقاط حكم "حماس" خوفاً من نسخ حالة الصومال في غزّة. وهو يرى أن الهدف الرابع المتعلق بوقف تسلح "حماس" مستقبلاً، وتعزيز قوتها العسكرية مرهون بطبيعة التسوية والاتفاق الذي سيتم التوصل إليه.
ويقول هرئيل: إن وحدة قادة الجيش مع نتنياهو وليبرمان هدفها بناء جبهة موحدة لمواجهة "ألسنة الوزراء"، التي ستنطلق الآن بعد هدوء المعركة لتحمل نتنياهو والجيش مسؤولية عدم إخضاع "حماس". كما سيواجه الثلاثي عدم الرضا السائد في أوساط الجمهور الإسرائيلي نفسه، الذي يشكك في نتائج المعركة.
مع ذلك، يقر هرئيل أن الجيش، وتحديداً شعبة الاستخبارات، لن يملكوا جواباً وافياً، عن الأسئلة المتعلقة بخطر الأنفاق: هل كانت الاستخبارات تعرف بوجودها أم لا؟ وإذا كانت تعرف لماذا لم تضع خططاً لضربها منذ اليوم الأول للمعركة؟
وتحت عنوان: انسحاب إلى لا مكان. كتب المحلل السياسي شمعون شيفر: "لقد اختار بنيامين نتنياهو أن ينسحب من قطاع غزة دون حسم المعركة، وها هو يدفع ثمن ذلك في كل يوم، لقد اختار مواصلة استنزاف الإسرائيليين في حرب استنزاف لم يُحدَّد لها هدف واضح. هكذا بكل صراحة ووضوح، يتضح لنا أن "البالغ المسؤول" ، "الملك بيبي"؛ من سطر لنفسه بنفسه شهادة تقدير أيام المعركة في غزة، على اعتبار أنه يعمل بتروٍّ وحكمة؛ هو شخصية ضعيفة تختار الأهداف للجيش وفق منطق لا يستطيع فهمه حتى من يريد مصلحة نتنياهو، بدءاً من الهدوء يقابل بالهدوء، ولغاية تقويض الأنفاق؛ فماذا عن خطر الصواريخ؟"
ويمضي شيفر: إن حماس والجهاد الإسلامي حددتا هدفاً واضحاً هو رفع الحصار عن قطاع غزة وفتح المعابر، إلى أن يتحقق هذا الهدف فإنهما لا تعتزمان وقف إطلاق الصواريخ. في المقابل بنى نتنياهو أبراجاً ورقية للأهداف، تنهار أمام ناظرينا حتى دون الحاجة لآليات سلاح الهندسة.
ويخلص الصحفي الاسرائيلي إلى القول إن الحرب الأخيرة على غزة دفعنا خلالها ثمناً باهظاً من الجنود القتلى، من دون الوصول إلى حسم، هو ليس بالأمر الذي يمكن التفاخر به، وفي كل مرة يتكرر نفس المشهد ونحصي فيه خسائرنا، لذا بمقدور نتنياهو أن يواسي نفسه بالجملة المأثورة عن هنري كيسنجر: الحكومات تفعل الأمر الصحيح فقط بعد أن تجرب كل الخيارات الأخرى. وها نحن ننتظر.
في كل مرة يرتكب فيها الاحتلال مجزرة بحق شعبنا الفلسطيني على مرأى ومسمع المجتمع الدولي الذي يقف ساكتا ولا يحرك ساكنا دون تنفيذ قرار واحد من القرارات التي تدين سلطات الاحتلال على جرائمها وأفعالها غير المسؤولة، كما أن صمت أمتنا العربية التي تأمل في يوم من الأيام التطبيع مع هذا الاحتلال سفاك الدماء يعد أيضا تواطؤا رخيصا، وكأنهم راضون عن جرائمه بحق أبناء جلدتهم، فيا للعار.
أخيراً تؤكد العملية أن الاحتلال لن يتخلى عن سياساته العنجهية ومخططاته العسكرية الخبيثة، وهي المخططات التي تصدت لها المقاومة الباسلة، وبدا ذلك في تصدي خيرة مقاتليها للقوة الإسرائيلية الخاصة المدربة تدريبات عالية الكفاءة لمثل هكذا مهمات وأوقعوا قائد القوة وضباطه بين قتيل وجريح في ملحمة سيخلدها التاريخ.