بكاميرته وهاتفه المحمول يتجول على خطوط النار، وصل إلى أقرب النقاط سخونة مع الاحتلال الإسرائيلي عند السياج الفاصل شرق منطقة أبو صفية شمالي القطاع، وتقدم مع المتظاهرين، ووثق لحظات اقتحام السياج.
وعاش معهم تفاصيل ومشاعر الاقتراب من الأراضي المحتلة (ربما لا تظهرها عدسات الكاميرات)، كان بين الموت كثيرًا، بل نجا منه فعلًا، فلا كاميرا ولا درع مكتوبًا عليه "press" يرحمان الصحفي من قناصة الاحتلال، والشواهد متعددة هنا.
المصور أنس الشريف (23 عامًا) خريج إذاعة وتلفزيون من جامعة الأقصى، لا يعمل في وكالة دولية، بل متطوع في شبكة "الشمال" الإعلامية، لكن أحيانًا لا تصنع الوسيلة الإعلامية اسم الصحفي، بل هو من يصنع اسمه بنفسه، شعار رفعه أنس وترك بصمة لا يمكن تجاهلها، فجميع الصور التي تخرج من محافظة الشمال في الأحداث المهمة والساخنة تذيل بتوقيعه، وتدل على تفانيه في العمل ووجوده طوال الوقت في الميدان، أصيب في مرتين بقنابل الغاز، أصابت إحدى القنابل كتفه، وما الذنب؟، لا شك أنه عمله الصحفي ونقله رسالة إعلامية.
ما إن تكتسي سماء كل خميس باللون الأسود يبدأ الشريف تجهيز معداته من كاميرات وهاتف محمول وجهاز حاسوب، لتغطية فعالية مسيرات العودة كل جمعة شرقي محافظة شمال القطاع، وكذلك يغطي المسير البحري يوم الإثنين شمالي القطاع بالقرب من منطقة "زيكيم" البحرية، قبل الجميع يذهب مع ساعات الظهيرة إلى مخيمات العودة، يرصد بدء وصول المتظاهرين، ومواكب الأحداث أولًا بأول منذ انطلاق مسيرات العودة، وهذا كما يعتقد "سر النجاح".
مشاهد لا تنسى
اقتحام المتظاهرين السياج مشهد لا ينساه الشريف وثقه بعدسة كاميراته، "كانت لحظات لا يمكنني نسيانها، إحداها حدثت قبل شهرين حينما اقتحم الشبان السياج الفاصل شرق محافظة الشمال، تقدمت معهم أوثق ما حدث وهم يلقون الحجارة".
يعود في حديثه مع صحيفة "فلسطين" لتلك اللحظة، نبضات قلب أنس تضطرب فلم يسبق له مواجهة موقف كهذا، عاش في لحظات صعبة قبل انسحاب المتظاهرين وتقدم قوات الاحتلال، وهي تطلق الرصاص عليهم، بعد ذلك تكررت مشاهد الاقتحام في نقطة مخيم العودة شرقي منطقة أبو صفية شمالي القطاع، والنقطة البحرية بمنطقة "زيكيم" على الحدود البحرية، وأصبحت الصفوف الأولى مكان المصور الشريف.
ولما كان لكل مصور مشاهد خاصة يحتفظ بها بذاكرته؛ كان لأنس مواقف وصور ستبقى تذكره بها وبما تخللها من كواليس، "عبد الفتاح عبد النبي" شاب كان ينسحب حاملًا إطار سيارات، قنصته قوات الاحتلال برصاصة في رأسه واستشهد على الفور، صورة أحدثت تفاعلًا دوليًّا، وأدانت الجريمة شخصيات حقوقية وأممية مختلفة، ولأنس بصمة في التقاط الصورة ونشرها.
ثلاثة جنود من جيش الاحتلال يقتحمون السياج الفاصل داخل القطاع، تقدموا بضعة أمتار، لسحب مصاب قنصوه بقدمه، مشهد يحدث أول مرة لم يألفه الغزيون، صورة التقطها أنس أثارت غضبًا واسعًا لدى المواطنين، كانت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة عصرًا في أحد أيام الأسبوع غير الجمعة، ذهب إلى منطقة أبو صفية لتغطية فعالية إطلاق بالونات للأطفال، وقبل بدء الفعالية بدقائق سمع صوت إطلاق نار، ومن فوره ذهب لالتقاط الصورة.
100 متر فقط هي المسافة التي فصلت المصور الغزي عن جنود الاحتلال، خاطر بحياته، إذ كان باستطاعتهم قنصه، محاولين طمس الجريمة، لكنه وصل إلى المكان والتقط الصورة من أقرب نقطة، وأحدثت تأثيرًا في الرأي العام الفلسطيني.
تميزت صور أنس بإظهار كثافة حشود المتظاهرين، وأيضًا بعض المشاهد منها، شاب أصيب ورغم إصابته التقط صورة "سلفي" وهو يحمل إطار السيارات، يضيف: "ركزت كذلك على الشباب الثائرين وهم يتقدمون الصفوف الأمامية، ويشعلون الإطارات، ويرفعون رايات فلسطين، أو يصعدون على السياج الفاصل ... كلها مشاهد وثقتها، فضلًا عن مشاهد القنص وجرائم الاحتلال".
بصمة وحلم
إجابة أنس عن أكثر الصور العالقة بمخيلته ما زالت مستمرة، وهذه المرة مشهد لطفل يقف على بعد عدة أمتار من جنود الاحتلال، أمسك بورقة ولفها ووضعه بفمه تعبيرًا عن "عدم المبالاة"، أحدث تفاعلًا على مواقع التواصل الاجتماعي، ومسنة فلسطينية أصيبت وهي تقص السلك، مشاهد وثقها أنس، ومع كثافة التغطية تعطلت كاميرته، فجلبوا له كاميرا أخرى لمواصلة المسيرة.
الرابع عشر من أيار (مايو) 2018م، أحداث دراماتيكية شرقي محافظات القطاع، وكذلك شرقي محافظة الشمال، هذه المنطقة تخصص أنس، جميع الصور التي تخرج من هذه المنطقة تذيل بتوقيعه، يعود بذاكرته إلى الخلف، يتوقف في حديثه عندها قائلًا: "كان يومًا مرعبًا، الحشد ضخم، وقوات الاحتلال تطلق الرصاص بكثافة، التقطت الكثير من الصور، ووثقت جرائم الاحتلال بالفيديو، ورغم خطورة الوضع لم أغادر المكان".
ما قبل مسيرة العودة لدى أنس ليس كما بعد انطلاقها في 30 آذار (مارس) 2018م، تجربة بين خطوط النار، وفي الصفوف الأمامية للمتظاهرين، لم تكن عادية، استنفر طاقته طوال الوقت، لم يتخلف جمعة واحدة عن التغطية، ترك بصمة واضحة باسمه.
"تميزت صوري من الصور الاعتيادية، في كل حدث أخرج إلى الرأي العام بصورة جديدة، أكون موجودًا من فوري في أي حدث بمنطقة شمالي القطاع (...) مواكبة الحدث عنوان الاستمرارية" يتحدث الشريف.
في صباح يوم هادئ الساعة الثامنة قبل شهرين طائرات الاحتلال استهدفت مقاومين ينتميان إلى كتائب المجاهدين، استشهد أحدهما، وأصيب ثلاثة أشخاص، شمالي القطاع، سمع أنس صوت الانفجار من منزله فكان خلال دقائق في مكان الاستهداف، يتحدث عما جرى معه حينها: "وصلت إلى المكان قبل سيارات الإسعاف، كنت المصور الصحفي الوحيد الموجود هناك، التقطت صور الشهيد قبل أن يعلموا أهله، ونقلت وسائل الإعلام ووكالات دولية صوري".
لكن آخر تصعيد للاحتلال على قطاع غزة كان مختلفًا لدى أنس، حينما استهدف موقع المقاومة بجوار المستشفى الأندونيسي بخمسة صواريخ، فكان يوجد في المشفى نحو 120 مريضًا وجريحًا من مسيرات العودة، وهو أيضًا كان موجودًا، لحظة لا تفر من حديثه: "رعب وخوف سادا صفوف المرضى لحظة القصف، تطايرت بعض الأجهزة الطبية الكهربائية من قوة الانفجار، وانهالت أسقف الجبس عليهم، تكسرت أجهزة كهربائية، ليلة أمضاها المرضى في ممرات المشفى، وثقتها بكاميرتي ونشرت الصور، ما أحدث ضجة كبيرة لدى الرأي العام ووسائل الإعلام".
الشريف كحال مئات المصورين في الميدان، تركوا بصمتهم في الميدان، منهم من استشهد كياسر مرتجى، وأحمد أبو حسين، والعشرات منهم أصيبوا أمام احتلال لا يحترم اتفاقيات "جنيف"، لكن للشريف أمنية يختم بها حديثه: "حلمي أن أوثق لحظة تحرير فلسطين، وأن أصبح مصورًا صحفيًّا لدى عدد من الوكالات الدولية".