لم يعد الفلسطينيون عامةً يثقون بأن المصالحة الوطنية ستتم، وأن المسامحة المجتمعية ستقع، وأن الاتفاق السياسي سينجز، وأن الشروط المشتركة لمختلف الأطراف ستحفظ، وأنهم سيعودون لممارسة حياتهم الطبيعية، وسيستعيدون علاقاتهم البينية الطيبة، وستعود الألفة إلى البيوت الفلسطينية، والدفء إلى العلاقات الفصائلية، وسينتهي الانقسام البغيض المزمن وستطوى صفحاته السوداء إلى الأبد، وسيلتزم طرفا الانقسام بتعهداتهما، ولن ينكصا على أعقابهما أو ينقلبا على اتفاقهما، إذ سيحفظان كلمتهما، وسيعود الفلسطينيون كما كانوا جبهةً واحدةً وأرضًا موحدة وعدوًا مشتركًا، لا شيء يفرقهم، ولا عدو يقوى على زرع الخلافات بينهم، ولا من يشتت جمعهم ويفرق صفهم ويهدد وجودهم، ويستهدف وطنهم أرضًا وشعبًا ومقدساتٍ.
لا يضحك الفلسطينيون على أنفسهم، ولا يخدعون بعضهم بعضًا، ولا يصدقون الكذبة التي يروجها المستفيدون ويدعيها المسؤولون، ولا يحاولون تزيين واقعهم أو تلميع صورتهم، فهم يدركون حقًا أن قيادتهم مريضة فاشلةٌ، وأنها عييةٌ عاجزة عن الفعل الجاد والالتزام الصادق، وأنها تفتقر إلى النوايا السليمة، وتعوزها الثقة والمصداقية، فهي لا تسعى إلى المصالحة ولا تريدها، ولا تخطط لها ولا تذلل العقبات من أمامها، بل إنها تسعى بطرفيها لتكريس الانقسام وتأبيد الانفصال، وتأكيد الخصوصية، وادعاء الاستقلالية، وفرض الهيمنة وبسط النفوذ، بمساعي واهمةٍ وأحلامٍ بائسةٍ بالسيطرة والتمكين، أو الاستحواذ المنفرد والسيطرة الأحادية.
لقد ملَّ الفلسطينيون ويئسوا من أسطوانة الحوار المشروخة وخطابات الوحدة الممجوجة، وأصابهم القنوط من أمل المصالحة المنشود، ولم يعد لديهم أي أملٍ بانتهاء هذه الحقبة، وطي هذه الصفحة من التاريخ، والبراءة من سنوات الفرقة والخصام، والخلاص من الضيق والمعاناة، والنجاة من قوانين الحصار وأشكال العقوبات، وأدركوا أن الانقسام قدرهم، والانفصال مصيرهم، والمصالح تحكمهم، والأهواء توجههم، والمنافع تحركهم، والعدو وحلفاؤه فرحٌ بواقعهم، وراضٍ عن حالتهم، ويسعده بقاؤهم على ما هم فيه من انقسامٍ سياسي وانفصالٍ جغرافي، وعداوةٍ مستحكمةٍ، وممارساتٍ كيديةٍ، وإجراءاتٍ استفزازيةٍ، واعتقالاتٍ تبادليةٍ، تذهب بريحهم، وتضعف صفهم، وتفرق جمعهم، وتجعل بأسهم بينهم شديدًا، ولقاءهم معًا محرمًا ومستحيلًا.
لا ينكر المواطنون الفلسطينيون أن هناك اختلافًا في النهج السياسي بين طرفي الانقسام، وأنهما يتناقضان في سبل المقاومة واستراتيجية التحرير، وأن أحدهما يؤمن بالتنسيق الأمني والآخر يجرمه ويخون فاعله، وأن أحدهما يصر على استعادة الأرض كلها من بحرها إلى نهرها، وتحرير الوطن كله واستعادة السيادة الكاملة عليه، في حين يقبل الآخر ببعضٍ من الوطن صغيرٍ، وبقطعةٍ من الأرض محدودة، وبسيادةٍ منقوصةٍ، وعاصمةٍ مقسمةٍ وسلاحٍ منزوعٍ، وحدودٍ رخوةٍ مستباحةٍ، وحريةٍ لجيشِ العدو بالاقتحام والاجتياح مصانة.
وبينما يرفض طرفٌ الاعتراف بالعدو والجلوس إليه والتفاوض معه، يعترف الآخر به ويجلس معه ويفاوضه، ويثق به ويتعاون معه، ولا يقبل الأول ضمان أمنه وسلامة جنوده ومستوطنيه، في حينٍ يلتزم الآخر بأمنه ويقلق على حياة مستوطنيه، ويسلم التائه منهم ويعيد المعتدي على أهله، ولا يرضى بانتقام شعبه وثورة أبنائه، بل يحاسب من يفكر بالانتقام ويعتقل من يخطط للثأر، ويعاقب بقسوةٍ من ينفذ ويعمل جادًا ضد العدو وجيشه، بينما يستعد الطرف الأول ويتهيأ، ويتدرب ويتهيأ ويعد العدة، ويطور الصواريخ ويزيد في ترسانة السلاح.
لكنّ كليهما بات يؤمن بالمقاومة الشعبية والنضال السلمي، ويعتمد المظاهرات والاعتصامات، والمسيرات والاتفاقيات، ولا يستثني حركات التضامن ومواقف الدول، وإن كان أحدهما يصر على تمسكه بالمقاومة المسلحة وعدم تخليه عنها، إلى جانب تجربته الجديدة في المقاومة السلمية والنضال الشعبي.
في حين أن الطرف الآخر الذي يحترم الاتفاقيات ويلتزم المعاهدات الدولية، يرى المقاومة المسلحة عملًا تخريبيًا، بل عملًا عبثيًا يضر بالقضية الفلسطينية ويعيدها سنين طويلة إلى الوراء، ويفقدها الأنصار والمؤيدين، ويدفع بالعدو الإسرائيلي للقيام بخطواتٍ وإجراءاتٍ أحادية الجانب، قاسية الأثر وعنيفة الشكل، يصعب تجاوزها ولا يسهل تراجعه عنها.
وكلاهما يعتقد أنه لا يستطيع وحده مواجهة العدو الإسرائيلي وهزيمته، ولا يقوى على التصدي له ولجمه، أو منعه من الاعتداء على شعبهم وقضم أرضهم وقتل واعتقال أبنائهم، وأنه لا بد من وحدة قوى الشعب واتفاق فصائله، والتئام شمل الجميع، ليشكلوا معًا قوةً كبيرةً وجبهةً مشتركة، تملك القدرة على ردع العدو وقهره، وإجباره على الانكفاء والتراجع بدل الاعتداء والتغول، والعدو قادرٌ على قواهم وفصائلهم متفرقين، وزعيمٌ بهزيمتهم أجمعين، فهو منهم فرادى أقوى، وعليهم متنازعين أقدر.
وكلاهما يرى أن الشعب يعاني ويقاسي، ويتألم ويتوجع، ويضعف ويخسر، ويفقد أبناؤه الأمل وأجيالهم الهدف، ويضيع مستقبلهم ويتبدد غدهم، إذ ذهب شبابهم وتشابهت أيامهم، وتعطلت حياتهم وجمدت أحوالهم، وباتت أسرهم تتفتت وعائلاتهم تتمزق، وساءت الأحوال بينهم، وانتشرت الأدواء وعمت البطالة فيهم، وسادت أمراضٌ وظهرت فيهم جرائم غريبة ومسلكياتٌ شاذةٌ غير محمودة، سببها الفقر وباعثها الحصار والقهر، وقد كانوا قادرين أن يكونوا صفوة الأمم وشامة الشعوب، وهم كذلك كانوا وإلى مكانتهم القديمة يتطلعون، ولكن الانقسام قهرهم، وقيادتهم قتلت الأمل فيهم وزرعت اليأس والقنوط مكانه في قلوبهم.
يدركُ الشعب الفلسطيني الذي دفع وحده ثمن الانقسام، وعانى دون غيره نتائجه وقاسى آثاره، وهو الذي ابتكر مختلف الوسائل للمواجهة والتحدي، وابتدع أغرب السبل وخاض أصعب المسالك ليستعيد حقوقه، ويرفع الحصار عن نفسه، أن المشكلة ليست في رواتب موظفين، ولا في تمكين حكومة وصلاحيات سلطة، وهي ليست في جبايةِ ضرائب واستيفاء رسومٍ وتحصيل جمارك، ولا هي ازدواجية سلطة وتفوق سلاحٍ.
إنما هي رغبةٌ متأصلة في بقاء الانقسام واستدامة الحال، وحاجةٌ ملحةٌ تفرضها القوى وتنفذها الأدوات، وهي محاولاتٌ للاستقواء ومساعٍ للبقاء، وهي منافعُ مستحكمةٌ ومصالحُ مقدمةٌ، وإلا فما الذي يعميهم عن حاجة الشعب ويصمّ آذانهم عن صراخه، وما الذي يمنعهم من الاتفاق والمصالحة، وجلب النفع ومنع الضرر، اللهم إلا أن يكونوا هم طهاة طبخة الحصى، وأعلم الناس أنه لا خير منها أبدًا يرتجى، وأن بقاءهم رهنُ الانقسام، وانتهاءه إيذانٌ برحيلهم وبلاغٌ بزوالهم.