4 أعوام من أوج طفولته قضاها محمد الريفي (14 عامًا)، وهو مستلقٍ على ظهره في مستشفى للتأهيل الطبي بمدينة غزة، لا يقوى على الحراك.
وأصيب الطفل الفلسطيني بشلل رباعي، جراء قصف إسرائيلي تعرض له مع 8 من أفراد عائلته في العدوان الإسرائيلي على القطاع صيف عام 2014.
وفي سنوات المرض تلك عاش محمد على جهاز للتنفس الاصطناعي متصل برقبته وبقي طريح الفراش لا يتحرك في جسده الصغير سوى رأسه، ويقبع بين جدران غرفة ضاقت روحه من وجوده الدائم فيها.
وأصيب محمد بشلل رباعي، فيما استشهد توأمه ووالده وعمه وأربعة من أبناء عمه، جراء قصف استهدف أرضهم الزراعية التي كانوا يتواجدون بها يوم 21 أغسطس/ آب 2014، خلال الأيام الأخيرة من العدوان على القطاع.
وصباح السبت الماضي، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، عن استشهاد الطفل الريفي متأثرًا بإصابته التي لم يتوفر لها العلاج على مدار الأعوام الأربعة الماضية.
وأضافت الوزارة، في بيانها، أن إصابة الطفل محمد كانت في الفقرات العنقية تسببت له بشلل رباعي وأبقته تحت التنفس الاصطناعي حتى إعلان استشهاده.
وحُرم محمد من ذروة نشاطه ومرحه على مدار تلك الفترة، وبقي في حالة حزن وألم، متمنيًا لو أنه يلعب كرة القدم لمرة واحدة، وهي الرياضة التي أحبها بشكل جنوني، ولعبها كثيرًا مع أصدقائه في ساحة فارغة أمام منزلهم.
غير أن حلمه بقي من المستحيلات، وانتهى للأبد، صباح السبت، بعد أن فارق الحياة.
تقول والدة الطفل الشهيد، هبة الريفي (36 عامًا)، والألم يعتصرها،:" أشعر أن هذا كابوس، وأن محمد مازال على قيد الحياة".
وتضيف، لوكالة الأناضول،: "قبل 9 أيام عانى محمد من نقص في الأكسجين بسبب تدني أداء جهاز التنفس الصناعي، مما أدى إلى دخوله في غيبوبة".
وتتابع: "لم أكن أتوقع بأنه سيفارق الحياة، لأن طفلي قوي، وتحدى مرضه".
صدمة كبيرة تعيشها الأم، بعد أن فقدت ابنها البكر، ليلحق بشقيقه التوأم "عمر" ووالدهما.
وتكمل "هبة" حديثها بصوت أنهكه الحزن: "كنت أتمنى أن يأتي إلى المنزل ويغادر المستشفى، لم أكن أريد شيئًا غير هذا، أنا موافقة لو أنه فقط استطاع الجلوس، والعيش معنا في منزلنا، وأن يأكل معنا، وينام ويصحو هنا بقربنا جميعا".
وتابعت وهي تبكي:" محمد لم يشاهد منزلنا الجديد، لقد انتقلنا للعيش هنا قبل شهر، وكان يتمنى أن يأتي لرؤية غرفته".
تمنى محمد كثيرًا لو أنه يغادر المستشفى إلى منزل عائلته، لكن ارتباط جسده بأجهزة التنفس الاصطناعي، ووضعه تحت الرقابة على مدار الساعة كان يحول دون ذلك، حسب والدته.
وخلال هذه الأعوام، تمنى الطفل الشهيد لو أن يداه الصغيرتان تلمسان بعض الألعاب ويشعر بها أو أن يركض مع إخوته وأصدقاء في سباق جري ليتوج الفائز بالسباق بلقب "البطل" كما كان يفعل عندما كان عمره 9 سنوات.
وخلال وقت طعامه، كان ينظر الطفل الشهيد لكوب الماء، وملعقة الطعام، وأمه تطعمه، ويقول لها:" ماما نفسي أنا أشرب لحالي (أتمنى أن أشرب الماء بمفردي)"، كما تروي هبة.
وتابعت: "عندما يحلّ العيد، كان يقول لي، ماما العيد الجاي (القادم)، قولك (باعتقادك)، راح (سوف) أركب على المراجيح والحصان، وألعب مع أصحابي".
ورغم رحلة العذاب والمرض والسكون التام، إلا أن محمد كان يتمتع بروح الإصرار والأمل وفق والدته، التي قالت: "لقد كان عنده أمل بأن يسافر للخارج كي يتلقى العلاج، وأصرّ بشدة على إكمال تعليمه على الرغم من وضعه الصحي".
والتحق الطفل الشهيد منذ إصابته بالشلل وفقدانه للحركة، بالمسيرة التعليمة، فقد وافقت وزارة التربية والتعليم على إرسال المعلمين إلى محمد في المستشفى لمتابعة دروسه هناك، وفق والدته.
وكان محمد قبل إصابته من الطلبة المتميزين، وحافظ على ذلك أثناء مرضه، كما قالت والدته، حتى وصل للصف السابع الأساسي.
وتابعت:" لقد كان يخبرني دومًا بأنه يريد أن يكمل تعليمه، وأن سيشفى يومًا، ويصبح مهندسًا، ولن يبقى نائمًا هكذا على ظهره طوال عمره، لقد كان متفائلا جدًا".
لم تستطع الأم المكلومة أن تكمل حديثها فصور طفلها التي كانت تتصفحها على هاتفها المحمول أدخلتها في نوبة بكاء شديدة.
طارق الريفي (40 عاما)، الناجي الوحيد من القصف الذي أصيب على إثره ابن شقيقه محمد واستشهد بسببه 4 من أبنائه الأطفال وشقيقيه وابن اخيه (توأم محمد)، كان يجلس في بيت العزاء قبالة منزل عائلته في حي التفاح بمدينة غزة، وتفاصيل الحزن والأسى تغزو وجهه فاستشهاد محمد أعاد لذاكرته وجع مضى عليه 4 أعوام.
واستعاد طارق مشهد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق عائلته، قائلا لمراسل الأناضول: "ذهبت مع أطفالي الأربعة، واثنين من أشقائي، وطفلي شقيقي، لنتفقد أرض لنا قريبة من المنزل، وبعد 5 دقائق من وصولنا شعرنا بانفجار صاروخ أطلقته الطائرات الإسرائيلية".
ويضيف: "أصبت، لكني لم أفقد الوعي حينها، وشاهدت طفلتي مرام تبكي وتصرخ من شدة الألم، وحاولت الزحف تجاهها وإسعافها رغم إصابتي، إلا أنني لم أتمكن من الوصول إليها وبعد لحظات وصلت سيارات الإسعاف".
ويكمل: "لا زال مشهد بكاء طفلتي وصراخها من شدة الإصابة حاضرا أمام عينيّ فهي الوحيدة التي شاهدتها جريحة من بين أبنائي الأربعة الذين استشهدوا في القصف الإسرائيلي".
وعلم الريفي بعد يوم من إصابته أن طفليه وشقيقيه وأحد أطفالهما قتلوا على الفور، جراء القصف، وأصيبت ابنته مرام وابنه زياد وابن شقيقه محمد بإصابات خطيرة.
لم تمض ثلاثة أيام على الحدث، آنذاك، حتى أعلن الأطباء بمستشفى الشفاء، غربي مدينة غزة، عن استشهاد الطفلين مرام وزياد ليبقى محمد طريح فراشه مصاب بشلل رباعي حتى التحق ببقية أفراد عائلته شهيدا.
حاولت عائلة الريفي نقل محمد للعلاج بالخارج طوال السنوات الأربع الماضية إلا أن الأطباء أجمعوا على أنه لا يمكن علاجه كون شظايا الصاروخ الإسرائيلي أصابت فقراته العنقية وهي منطقة حساسة للغاية.
وختم الريفي حديثه، للأناضول، قائلا: "الحمد لله على كل حال، أتمنى أن يجمعنا الله مع محمد وشقيقه وأطفالي بالجنة".
وشن جيش الاحتلال الإسرائيلي حربا على قطاع غزة بدأت في 8 يوليو/ تموز 2014 واستمرت 51 يوما متواصلا.
وباستشهاد الريفي يرتفع عدد ضحايا الحرب إلى 2323 شهيدا فلسطينيا بينهم 579 طفلًا، و489 امرأةً، و102 مسنًا، وفق إحصائية رسمية صدرت عن وزارة الصحة الفلسطينية.
كما تسببت الحرب، بإصابة نحو 11 ألفًا، منهم 302 سيدة، بينهن 100 سيدة تعاني من إعاقة دائمة، كما وأصيب 3303 من بين الجرحى بإعاقة دائمة، وفق الإحصائية.