الصهيونية بخبثها ودهائها تسعى دائمًا للسيطرة على المجتمعات، مستعينة بأدوات مختلفة، منها التغرير بالجماهير، وتغذية الأحقاد، وإشعال نيران الفتن، ونشر الفساد والانحلال الأخلاقي، وتسعى جاهدة للنيل من الأديان لتظهر في عين وثقافة الناس أن الإيمان بها هي رجعية تتعارض مع تطور الحضارات، فقلب الحقائق وتضليل الشعوب واستنزاف قوتها وإدخالها في صراعات بينية هي أهم الأهداف الخبيثة التي يسعى إليها الصهاينة، لذلك يحاولون الآن وبشكل متسارع التغلغل أكثر داخل المجتمعات العربية بدعوى العمل المشترك والرغبة في التعايش وتحقيق السلام.
لن يكون بعض دول الخليج المحطة الأخيرة، لكنهم يسيرون وفق خطط ممنهجة للسيطرة على هذه المجتمعات بكاملها، وأن ما يذيعونه هو مجرد أكاذيب وتجميل لصورتهم السوداء، حتى تتقبلهم مجتمعاتنا العربية، وفى حقيقة الأمر، هم يسعون أيضًا إلى تحوير وتغيير عقول الناس وطمس الحقائق أمامهم وحرف أنظارهم عما يجرى في فلسطين، في ظل التهويد والاستيطان والإجرام المتواصل بحق الشعب الفلسطيني، بكل تأكيد نجح الصهاينة في إيجاد حلفاء لفكرتهم يمهدون لهم الطريق ويتصدون لكل دعاة الحرية وينتفضون مدافعين عن التطبيع والتعايش والمصالح العليا للبلاد في ظل التعاون المشترك، لكن الأحرار لا يقبلون على أنفسهم أن يبقوا متفرجين ليكونوا ضحايا على مذابح الصهاينة، ولا يمكن لهم أن يمرروا هذه الخطط الخبيثة لزعزعة الأمن والاستقرار في بلداننا العربية، مستلهمين التضحيات التي يقدمها أبناء شعبنا في كل الأرض الفلسطينية، مبصرين لحقيقة الصراع ولما يجري بحق أهلنا في غزة المحاصرة، ذاك الجسد المنهك الذي ما زال ينبض بالحياة.
رغم الألم وكثرة الجراح، فعلًا غزة تنتفض اليوم لتحيي هذه الروح في شعبنا وأمتنا العربية والإسلامية أنه لا يمكن بأي حال تقبل هذا السرطان، ولا يمكن أن يسمح بتمدده في أقطارنا العربية، فالتضحيات التي يقدمها شعبنا الفلسطيني في كل مكان وخصوصًا في مسيرات العودة وكسر الحصار، أرغمت الاحتلال على تغيير طرقه في التعاطي مع الحقوق المشروعة وتدفعه للرضوخ لمطالب شعبنا وتبقيه في حالة إرباك واستنزاف متواصل، بعد أن استنزف كل وسائله وأدواته العسكرية الفتاكة ضد الثائرين على الحدود الزائلة، هو الآن يقبل ويستجيب أن يحقق مطالب وحقوق شعبنا في غزة التي فرضت بتضحيات مكونات هذا الشعب المعطاء.
قد لا تحقق هذه الجولة من الصراع نيل كل الحقوق، لكن يُسجَّل لهذه المسيرات أنها فرضت قضية فلسطين مجددًا على أجندة العالم، وأعادت المكانة للقضية، وأدخلت أدوات جديدة في صراعنا الطويل مع الاحتلال، ودفعت الوسطاء الإقليميين والدوليين للحضور إلى غزة رغبة منهم في تخفيض لهيب المسيرات؛ لأن العدو الصهيوني لديه الرغبة في الاستجابة لمتطلبات وحقوق شعبنا، نعم استطاعت المسيرات تسجيل أهداف جديدة في مرمى الصهاينة، وسجلت نقاطًا وتقدمًا تدريجيًّا يضاف إلى ما حققه ويحققه شعبنا في مواجهة هذا المحتل المجرم، ستبقى هذه المسيرات حاضرة ومستمرة وربما تمتد إلى أراضٍ فلسطينية أخرى في القريب العاجل، ليفهم هذا المحتل أنه لا مكان له على هذه الارض الطيبة المقدسة، التي لا تقبل نجس ورجس الصهاينة وأعوانهم.
تأتي هذه التضحيات اليوم لتفضح كل الذين هرولوا وسارعوا للتطبيع مع العدو المجرم، وتكشف الستار عن نوايا الصهاينة وعن وجههم الحقيقي، فلن تتغير صفة هذا المحتل العنصري البربري القاتل.. إن العار سيلاحق كل أولئك الذين انبطحوا لمشروع الصهاينة واستسلموا لهم وطبعوا على حساب الدماء وعلى حساب مقدرات ومكانة هذه الأمة.
ونحن نستعرض التضحيات ونعيش الواقع المؤلم للتطبيع، تلحفنا هذه الذكرى السوداء من وعد بلفور المشؤوم الذي كرس لأكبر خطيئة وكارثة إنسانية وأخلاقية وسياسية، بحق شعبنا وفجر كل مكامن الآلام والأوجاع، وكان سببًا في تشتيت شعبنا وقتل الآلاف وتدمير مقدراتنا وإدخال الشعب الفلسطيني في صراع طويل في معركة الإرادة والبقاء، وفى ذات الوقت يصطف بيننا أناس يعز عليهم معاني الكرامة ولا يريدون السير في ركب الأحرار ويطعنون صفوفنا طعنة العبيد التي تنقاد إلى غضبة ورغبة سيدها الذي يتماهى ويتساوق مع الإرادة الصهيونية، هانت عليهم التضحيات فهاجموها بجمرات خبيثة بدلًا من أن يتخندقوا مع شعبهم دفاعًا عن أرضهم وشعبهم وكرامته.