مسنٌّ ينثر مجموعةً من العملات المعدنية القديمة في "صينية" خصصها لذلك، ولمن أراد أن يشتري منها، ضيفنا كان يتردد في طفولته على البقالة القريبة من البيت، والتي يجلس فيها ذلك المسن، وعندما كان في الثانية عشر من عمره، اشترى منه ذات يوم قطعة "4 فلس" عليها صورة ملك العراق فيصل الأول، فالعملة كانت عراقية قديمة، ومن هنا كانت البداية لطريق من البحث عن القديم، وتحديدًا القديم الفلسطيني الذي يجمعه بصعوبة ويعرضه في متجره في البلدة القديمة في القدس، منه ما يبيعه، ومنه ما يستحيل أن يتنازل عنه.
"فلسطين" حاورت الشاب المقدسي "رامي النابلسي" للتعرف على حكايته وعلاقته بالأشياء القديمة.
الإصابة بـ"الشغف"
يقول النابلسي عن البدايات: "اعتدتُ على الجلوس في تلك البقالة للبحث في العملات الموجودة واختيار بعضها، وقد كانت العملة العراقية القديمة التي حصلت عليها البداية لكل شيء"، مضيفًا: "ذات مرة، وأثناء بحثي في صينية العملات الموجودة في البقالة، عثرتُ على قطعةٍ مكتوب عليها فلسطين، وبعدها أُصبت بالشغف للعثور على كل ما هو فلسطيني قديم".
كبرت الموهبة مع ضيفنا، وزاد بحثه، وتوسع نطاق الأماكن التي يسعى فيها وراء الأشياء القديمة، حتى في غربته، التي استمرت لعدة سنوات، عثر على كثيرٍ من الأشياء مثل تذاكر سينما في القدس وجدها في العاصمة البريطانية لندن، وكتاب الدليل الفلسطيني اشتراه من مزاد عُقِد في مدينة زيورخ السويسرية، ومن سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حصل على كتب إسلامية مقدسيه تمت طباعتها في القدس، لكن أغلب مقتنياته عثر عليها داخل فلسطين.
جمع الأشياء القديمة بالنسبة للنابلسي ليس مجرد هواية يمارسها، وإنما وسيلة لتوثيق التاريخ، وللتأكيد على الوجود الفلسطيني.
ويوضح: "الأشياء التراثية موجودة في أماكن كثيرة، لأن الفلسطيني يعتز بتراثه، ولذا حددتُ مجال عملي ليقتصر على الأشياء النادرة والتي تكون بمثابة وثائق وإثباتات لتاريخنا، وأجد هذا في أشياء بسيطة جدًا".
ومن أمثلة المقتنيات البسيطة والمهمة في آن واحد، كيسٌ ورقي لمخبز كان موجودًا في "حارة الشرف"، والتي تُسمى الآن "حارة اليهود"، وعنوان المخبز كما هو مكتوب على الكيس "القدس: حارة الشرف"، وهذا بحسب النابلسي "شيء بسيط لكنه ذو مغزى عميق جدًا، فالكيس الذي يُلقى في القمامة ولا يلتفت له أحد، يشير إلى أن الحارة هي فلسطينية في الأصل واسمها الشرف وليس كما هو الواقع الآن".
وإضافة إلى الكيس الخاص بمخبز "الصواف" الذي صادره الاحتلال، يمتلك النابلسي تذاكر طيران من لبنان للقدس، وعلب سجائر من استيراد دولة فلسطين وأخرى مصنوعة فيها، وكذلك كتب أُشير عليها أنها مطبوعة في دولة فلسطين.
لأكون في القدس
قبل ثلاث سنوات تقريبًا، قرر النابلسي الذي يعمل صائغًا أن يُعيد فتح دكان والده المتوفى، والذي كان للحدادة، ليمارس فيه عمله بالصياغة، ويعرض فيه مقتنياته، فيبيع بعضها، ويكون الباقي للعرض فقط ليطلع عليه الزوار.
ويقول: "المحل في حي وليس في السوق، وهدفي من افتتاحه أن أكون في القدس وأحافظ على ممتلكاتي وممتلكات أجدادي".
ويضيف: "الفلسطيني لا يُباع أبدًا، وإنما يحفظ، لذا فكل شيء مكتوب عليه اسم فلسطين لا أبيعه مطلقًا، فمثلا عندي ألف صحيفة قديمة لو بعتها لحققت منها أرباحًا طائلة، ولكن هذا مستحيل".
ويتابع عن المشترين: "للأسف إدراك قيمة هذه الأشياء ليس موجودًا عند الفلسطينيين، وإنما السياح هم من يطلبون هذه القطع، بالإضافة إلى شرائهم للفضة التي اعتاش من صياغتها بأشكال فلسطينية قديمة".
أهمية القطع التي يعرضها النابلسي، جعلت بعضها عرضة للسرقة، مما دفعه إلى عدم عرض كل ما يملكه في المحل، وفي الوقت ذاته فهو يتبرع ببعض ما يحصل عليه لبعض المؤسسات، فهدفه هو اطلاع الناس على هذه المقتنيات وليس إخفاءها.
النابلسي الذي يبدي استعداده لإنفاق كل ما يملك للحصول على أشياء فلسطينية قديمة يحصل على مقتنياته بعدة طرق، منها أن يشتري كل شيء قديم تقع يده عليه، ومن بينه يجد أشياء فلسطينية نادرة، والتوجه إلى البيوت التي يهدمها الاحتلال ليغير معالم المنطقة لشراء الأوراق الخاصة بملكية هذه البيوت، وفي بعض الأحيان يكون لا بد من البحث في مكبات النفايات، فعندما يسمع بإغلاق مكتبة قديمة والتخلص من محتوياتها يتوجه على الفور إلى المكان الذي تم إلقاء محتويات المكتبة فيه ليأخذ من بينها الكتب والصحف والمجلات.
ومن طرقه أيضًا للحصول على الأشياء القديمة، شراؤها عبر الإنترنت، أو السفر في حال تم عقد مزادٍ كبير، إلى جانب مساعديه المتواجدين في أغلب المدن الفلسطينية الذين يمدّونه بالمعلومات.
ويؤكد النابلسي: "المدن المحتلة فيها كنوزٌ من هذه الأشياء، فعندما احتلونا كانوا يسرقون كل شيء، واليوم أبناؤهم يبيعونهم، وأنا أشتري".
دونه.. بدأت وسأستمر
هذا الاهتمام الكبير من ضيفنا بالأشياء القديمة، كيف يتفاعل معه القريبون منه؟، يجيب: "لطالما قال لي الناس (مالك ومال هالشغلة)، فالتشجيع مفقود تمامًا، ولكن الإرادة تصنع المعجزات، والشغف أقوى من التشجيع، وأنا بدأت بلا تشجيع وسأستمر، وربما يعرف الآخرون قيمة ما أفعله بعد عشرات السنوات".
المحل الذي يعجّ بالأشياء القديمة لا يخضع لطريقته في ترتيب محتوياته، وإنما يضع صاحبه الأشياء فيه بشكل عشوائي، إذ يبين النابلسي: "المحل قديم، وليس فيه أرفف جيدة، ولكن مضمونه متميز، ففيه قطع من معظم دول العالم".
التوثيق بهذه الطريقة لا بد أن يقابله مضايقات من الاحتلال، وعن ذلك يقول: "المقدسيون بشكل عام يعانون من الاحتلال، وطبعًا تعرّضت لمضايقات لكوني أستمر بالحديث عن فلسطين، ولبعض مقتنياتي مثل كتب بالعبرية مكتوب عليها أنها طُبعت في فلسطين، لكن لم يجد الاحتلال سببًا يبرر به مضايقتي، فعملي لا يتعارض مع قوانينه، وكل ما أفعله هو جمع أشيائنا كفلسطينيين ونقلها إلى جيل آخر.
النابلسي حرص على ألا ينهي الحوار إلا وقد تمنى على كل من يعثر على شيء فلسطيني قديم، ولو كان قصاصة ورق، أن يحافظ عليه، فلكل شيء أهمية تنعكس على الموروث الفلسطيني.