فلسطين أون لاين

​رفقًا بالقوارير

...
صورة تعبيرية
بقلم / د. زهرة خدرج

أخذ الليل ينشر عباءته الداكنة على السماء وعلى روحها الكئيبة؛ حين أخذت تسخن الطعام وترتب الأطباق على طاولة الطعام قبل عودته إلى البيت، غطت صينية الطعام بقطعة قماشية سميكة.. ووضعت زجاجة الماء أيضًا، وجهزت أكواب الشاي والإبريق.

"ما يتعلق بالمائدة كل شيء جاهز مئة بالمئة".. هذا ما أخذت تحدث به نفسها.. انطلقت بعد ذلك إلى غرفتها تجهز له الملابس التي سيرتديها بعد الاستحمام.. كانت تتحرك بهدوء شديد وتمشي على رؤوس أصابعها حتى لا يستيقظ الصغير الذي سيحيل استيقاظه هدوء البيت إلى ضجيج لا يوصف، وترتيبه إلى فوضى عارمة؛ الأمر الذي سيسبب لها لومًا فكريًا وانتقاده بمجرد عودته ما سيعكر الجو بينهما.

رنت حماتها جرس الباب؛ مناديةً إياها في الوقت ذاته: "صفاء.. صفاء.. صرخ الصغير في سريره باكيًا".. فتحت الباب.. " بادرتها حماتها قائلة: "من الضروري أن تنزلي الآن لتكنسي الجزء الأمامي من الحديقة.. فلدي ضيوف الليلة وسأجلس وإياهم أمام الحديقة.

-"ولكن الآن موعد عودة فكري من العمل، وها منير يبكي بعد أن استيقظ من نومه، وأنت تعلمين أنه يرفض إلا أن يكون بالقرب مني.. فلماذا لا تجلسي وإياهم في الداخل وسأكنسها غدًا إن شاء الله نهارًا؟".

ودون أن تجيبها، أدارت ظهرها، وملامح وجهها تنبئ بأنها غير راضيةٍ.. أسرعت إلى منير تخرجه من سريره، ألقمته ثديها وأخذت تهدهده وتحاول استرضاءه ليعود لنومه؛ ولكن دون فائدة.. فهو يريد أن يلعب لا أن يعود للنوم؛ استسلمت له وأنزلته أرضًا ليحبو كما يشاء.. وما هي إلا دقائق، حتى سمعت خطوات فكري خلف الباب، سارعت لفتحه يعلو ثغرها ابتسامة مُرَحِّبة..

-مساء الخير..

-مساء الخير.. كيف كان يومك؟

لم يجب.

-لماذا تبدو غاضبًا هكذا؟

-وكيف لي أن لا أغضب وأنت لا تجيبين طلب أمي؟

-أرجوك افهمني.. أنا لم أقصد عصيانها أو تجاهل طلبها..

وأخذت تروي له ما جرى.. قاطعها رافضًا الاستماع: مهما حدث لا يوجد هناك أي مبرر لأن تتجاهلي طلبها.. هي أمي، وليس لي سواها.. بإمكاني أن أتخلى عنك.. أما هي فلا!

-حاضر.. سأفعل ما تريد.. غدًا إن شاء الله سأصلح معها الوضع..

-بل الآن.. هيا اذهبي لها ونفذي ما أرادت.

فرت دمعة شاردة من عينها، وقالت: حسنًا.. كما تريد.

تناول الطعام وحده.. ثم بدل ملابسه، وخرج من البيت.. شاهدته يفتح الباب الخارجي.. نادته: فكري.. فكري.. أين تذهب؟ لم أرك بعد..

تجاهل نداءها، وصفق الباب خلفه بعنف.. استجمعت كرامتها المهشمة بعد أن أنهت المهمة المطلوبة منها، وعادت أدراجها.. وجدت منير قد أوقع كثيرًا من الأشياء أرضًا.. وسكب زجاجة العصير أرضًا وأخذ يلعب بالسائل كمن يسبح وسطه.. رفعته، ونظفته، وأخذت ترتب الفوضى التي أحدثها.

نظرت إلى مائدة الطعام، فشعرت بحزن شديد وقالت لنفسها: فكري لم ينتظرني لنتناول الطعام معًا، بل وخرج غاضبًا، حقيقة لا أدري سببًا لغضبه، فقد نفذت أوامر والدته بالحرف الواحد، وانتهى الأمر، المشكلة أنه يعاملني بقسوة، ليست هذه المرة فقط؛ وغير مستعد لأن يعطيني فرصة للحديث ويسمع مني، ويُسمعني في كل مرة بأنه مستعد للتخلي عني.. فيضعني في مفارقة مع والدته.

عاد إلى البيت مع انتصاف الليل.. كانت لا تزال مستيقظة تنتظر عودته.. غير ملابسه، واستلقى في فراشه دون أن ينبس ببنت شفة، كأنه لا أحد في البيت.. قالت موجهة الكلام له: أريد أن أفهم، ماذا حدث حتى تعاملني بهذه الطريقة؟ لم يجب، وكأنه لم يسمع. عادت تقول: لماذا تقسو علي هكذا يا فكري؟ أنا أحترم والدتك، وأعاملها كأمي، المشكلة هي فيك أنت وليس بيني وبين والدتك.

- الأفضل أن تغلقي فمك وتخرسي.

- لا أسمح لك بأن تقول لي هذا الكلام.

- وهل أنتظر منك الإذن لأقول ما أريد؟ أنت تجاوزت حدودك، ويبدو أنك بحاجة لتأديب.

- أنا مؤدبة من قبل أن أعرفك.. ولكن أنت إنسان لم يعد بالإمكان التفاهم معك.. فأنت تبحث عن هفوة صغيرة لتعود وكأنك طفل صغير يواجه أي مشكلة تواجهه بالغضب والصراخ كالأطفال.

قفز من مكانه غاضبًا، ووجه لكمته الأولى لوجهها، ثم كتفها، ولطمها على وجهها مرة أخرى قائلًا: أتتهميني بأنني كالأطفال؟ حاولت حماية وجهها بيديها، أزاحهما بعنف وأوسعها ضربًا.. ثم أخذ يجمع ملابسها بشكل هستيري في حقيبة كبيرة.. وألقى بها خارج البيت وهو يصرخ في وجهها: أنا لم أعد أطيقك.. أنت وقحة ولا تستحقين البقاء في بيتي.. هيا اخرجي لا أريد أن أراك مرة أخرى، وأخذ يدفعها لخارج البيت بملابس نومها؛ رجته بأن يتركها ترتدي شيئًا يسترها.. رفض.. همت بأخذ صغيرها معها.. ولكنه أخذه منها بعنف.

-أنت لا تستحقين أن تربي ابني.

عادت إلى بيت والدها تبكي كرامتها، وابنها؛ أجبرتها عائلتها بالعودة إليه بعد ثلاثة أشهر من الحادثة، بعد أن تركها طوال تلك المدة دون أن يسأل عنها أو يتراجع عن ما بدر منه، بل وخطب غيرها، طلبت أسرتها من أحد الوجهاء التدخل في الأمر، وإعادتها لزوجها؛ فهي تتحرق شوقًا لابنها، ولا ستر للمرأة إلا في بيت زوجها..

عادت تكمل فصول الهزيمة، برفقة ضرة لها في بيت زوج لا يعمل بقول رسول الله: «رفقًا بالقوارير» و«استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه».