عندما امتلكته للمرة الأولى شعرت أنني امتلكت صك الغفران الذي يسمح لي باجتياز الدنيا الفانية إلى الجنةِ الخالدة بزوال ذنوبي، كنتُ أظنها خطوة أولى للحرية التي ننادي بها في كل الأزقةِ والممرات وعبر المنابرِ الإعلامية والمؤتمرات الدولية والأصعدة العالمية، ببراءة عشرينية تتقد حرية وتتوهج عيناها كلما رأت منشورًا يختتم بهشتاق # ياحرية وقلبها يقول "جميل جميل هناك مَن لا يزال يؤمن بها بعد كل تلك العقود"، لا ريب فإن ما امتلكته يُطلقُ عليه اسم "جواز سفر".
"كل ممنوع مرغوب" لذلك يظن كل أبناء جيل التسعينيات أمثالي الذين مُنِحوا بطاقة التعريف الشخصية ID بالتزامن مع الانقسام الفلسطيني أو بعده، ولم يعرفوا بوابةِ رفح إلا مغلقة أو منصة للاحتجاجات والمطالباتِ بفتحها كبابٍ للنور يجلي سراب الحرية الذي يغشاهم ليل نهار فيظنون أنها عالقة على أسوارِ بوابة رفح التي تفصل رأس غزة المكبل بالقيد عن جسدها المتشبث بتلابيب الأمل.
لن أكون خيالية إلى الحدِ الذي لن أصدق نفسي فيه وسأكون موضوعية قدر الإمكان فلا شك أننا نطمح لسجدةٍ في رحابِ المسجدِ الأقصى ولابد أن أرواحنا تهفو وتحلق حُبًا وتوّقًا لالتقاط بعض صورٍ فريدات من أسواق القدس القديمة أو شراءِ قنينةِ زيتٍ مقدسي أو عِقد أعدته أنامل سيدة أربعينية بخرزاتٍ ملوناتٍ يُعلِّق أنظار الفتيات عليه وهو يتدلى من دكانِها الصغير، وكصحفية ربما تتسارع دقات قلبي كلما تخيلت مشهدي وأنا أُعد قصة صحفية عن بائعة البقدونس السبعينية تلك التي لم تلبث أن تغادر درجات الأقصى الأولى المُنفلِجة للمُصلِي من بوابته.
ولكن هل الحرية هي حُلم زيارة القدس الشريف ذاك الذي ننتظره عند سنِ الخمسين؟ عندما يسمح لنا الاحتلال بالزيارة بينما يزورك في غزة المسلمون من كافةِ بقاع الأرض تفصلك عنهم الدول والقارات والبحار والبحيرات والأنهار والغابات يحدثونك عن زيارتهم للقدس!، أم الحرية ماجستير ودكتوراه تتفاخر بهما وهما من أرقى الجامعاتِ العالمية من أمريكا فألمانيا إلى العاصمةِ اللندنية وغيرها الكثير الكثير، أم هي هجرة من المدينةِ الخربة التي تلعنها صبح مساء وتنسى أنها أمك التي أتت بكِ إلى الدنيا دون حولٍ لها ولا قوة فوجدت نفسها فقيرة شعثاء غبراء.
الغريب أن جميع المهاجرين والمسافرين من جحيمها إلى رياض العالم خلف أسوراها ما تمضي عليهم أول ثلاث ليالٍ حتى تجدهم يولولون ويبكون متمنين أن يعودوا ليصلوا في رحابِ مينائها ركعة!، ومنهم من يأخذهم وهج البداية كما نقول بالعامية "سارقاه السكينة" ثم يبدأ الوهج يخف بالتدريج شيئًا فشيئا حتى يصبح حاله أردى من سابقه، أما الأكثر غرابة هو أننا نسمع ونرى حال هذا وذاك ومع ذلك مازلنا متمسكين باعتقادنا أنها الحرية، فهل الباكي خارج أسوارها عليها أم الباكي داخل أسوارها منها هو الحر؟
في تقرير أعددته لهذه الصحيفة الجميلة قبل نحوِ عام كان عنوانه سؤال: "ما الأمر الذي ستجرب القيام به لو عرفت أنك لن تفشل؟" فكانت 90% من الاجابات تدور رحالها حول السفر، فهل كانوا يعنون بالخوف من الفشل أن يحنّوا لبلادهم التي يكفرون بتربها يوما؟ وهل تخشى أنت يا قارئي الغزي المتأمل بالسفر وأنت تستمع لحالِ صديقك أو أخيك الذي يولول شوقًا للعودة مكانك أيضًا من تبدل حالك بحاله يوما؟
يبدو أننا نتجاهل كل تلك الأمور ولا نراها بصورتها الجلّية الواضحة ولست أدري ما السبب أهو الأمل أم عنادًا وكِبر؟ في الحقيقة ليس حالي أفضل منكم بكثير فرغم أنني أعددت قصة صحفية جميلة عن الأسطورة لينا الجربوني التي حولت حياتها في الأسرِ إلى رياض من العلم والمعرفة يتخللها الحب والطمأنينة والأمان الذي تفتقده الكثير من الأسيرات بعد أن يودعنها رغم أنهن مُقبلات على بيوتهن وأزواجهن.
ورغم أنني في إعدادي لقصتي عن تلك المرأة النبيلة كتبت هذه العبارة التي ما تفتأ أن تتردد على مسامع قلبي من حينٍ لآخر "الحرية لم تكن يومًا العيش خارج أسوار السجن، بل إن الحرية كل الحرية تكمن داخل الإنسان، في أفكاره وأعماقه، أسرار ذاته وأسلوب حياته" إلا أنني يوم امتلكت صك الغفران ذاك بدا لي بأنه مفتاح معبر رفح! فهل لابد من لدغةٍ خارج بوابته لندرك شعور الوافدين من أقطابِ العالم كافة مُقبِّلين ترب بلادنا الذي نلعنه أم مزيد من الحكمة؟