لما تيقنت السيدة الخمسينية نادية عبد المحسن، التي تقطن في رفح جنوب قطاع غزة، من استيطان داء السرطان في غدتها الدرقية؛ هرعت إلى دائرة العلاج في الخارج بمدينة غزة، للحصول على تحويل طبية إلى مستشفيات الضفة الغربية المحتلة أو الأراضي المحتلة منذ 1948م، ولكنها سرعان ما اصطدمت بسلسلة من العراقل.
وخلال الأشهر السبعة الأولى من إصابة عبد المحسن بداء السرطان منتصف 2016م قوبلت جميع محاولاتها لاستصدار تحويلة للعلاج في الخارج بالرفض دون أي أسباب تذكر، الأمر الذي ضاعف من تدهور حالتها الصحية طوال مدة الرفض، مع النقص الحاد في مستلزمات العلاج في قطاع غزة الواقع تحت حصار إسرائيلي مشدد منذ 2007م.
وبصوت خافت تخبر عبد المحسن صحيفة "فلسطين" كيف كانت تتلقى جواب دائرة العلاج في الخارج التابعة للسلطة في رام الله، على هيئة كلمة واحدة: "مرفوضة"، وكيف ذاقت قسوة المعاناة عند معبر رفح البري، الواصل بين القطاع المحاصر والعالم الخارجي عبر مصر، عندما كانت تحاول السفر بغية إيقاف التوغل السرطاني في جسدها قبل فوات الأوان.
وتقول عبد المحسن: "مع مرور الوقت كانت حالتي الصحية تزداد سوءًا، وكنت أكرر الطلبات أسبوعيًّا، وأتحمل ثمن ومعاناة التنقل بين جنوب القطاع وشماله، فضلًا عن قسوة الرفض المتكرر وغير المسوغ، حتى حصلت على فرصة للعلاج بمصر، ولكني لم أستطع الخروج بسبب الإغلاق المتكرر للمعبر وتكدس المسافرين".
وبعد فرض رئيس السلطة محمود عباس عقوبات جماعية على قطاع غزة في آذار (مارس) 2017م حتى رسائل الرفض لم تعد تتلقاها، لتصل حالة اليأس إلى أعلى مستوياتها، قبل أن يسمح لها أواخر العام الماضي بالخروج إلى الداخل المحتل، بعدما باتت تواجه صعوبة باللغة في النطق والقيام بالمهام اليومية الحياتية سيدةً ترعى خمسة أفراد.
ولعائلة رشدي تجربة قاسية مع دائرة العلاج في الخارج، بدأت فصولها منذ لحظة اكتشاف إصابة الوالدة أم محمود بداء السرطان صيف 2014م، مرورًا بإجراءات الفحص الأمني والتحقق من حاجة الحالة للعلاج على مدار عدة أسابيع، إلى ما بعد وفاة أم محمود عام 2016م.
تقول غدير ابنة أم محمود: "بعد انتهاء حرب 2014م ظهر على والدتي علامات إعياء شديد، فلجأت إلى إجراء فحوصات طبية، بينت إصابتها بداء السرطان، وحينها حاولت الخروج من طريق حاجز بيت حانون (إيريز)، ولكن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح، إلا عدة مرات فاشلة من تقديم الطلبات ورفضها، تارة بربط السبب بأمي (رحمها الله)، وأخرى بالشخص المرافق لها".
وكان يجب على أم محمود أن تتقدم في كل مرة تحتاج فيها أن تغادر القطاع بطلب استصدار تصريح مغادرة جديد، لتدخل على إثر ذلك في الدوامة ذاتها التي تبدأ بتقديم الطلب ثم إجراءات الفحص ثم انتظار الرد.
وتشبه غدير إجراءات دائرة العلاج بالخارج التابعة لرام الله بالموت البطيء، مضيفة: "طوال مرض والدتي غادرت القطاع ثلاث مرات، مع أنه كان يجب أن تغادر بمعدل مرة كل شهرين، وعندما جاءت موافقة المغادرة في المرة الرابعة كنا نستقبل المعزين في وفاة والدتي، وهذا حالنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
أما الشاب محمود عبد الكريم الذي عاش تجربة المعاناة مع شقيقته الكبرى "نور" فيصف إجراءات دائرة العلاج في الخارج بالتعسفية، التي تزيد من كرب المرضى، ويقول: "يمكن القول إن موظفي الدائرة في غزة لا حول لهم ولا قوة، هم فقط يرسلون طلبات المرضى إلى رام الله؛ فهناك رأس المتسبب الأساسي بالمعاناة التي لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا".
وأظهر تقرير حديث أصدره مركز الميزان لحقوق الإنسان عن واقع المرضى في قطاع غزة مع المعايير الخاصة بالتحويلات الطبية أن مستوى الخدمات الصحية في القطاع شهد تراجعًا خلال العقد الأخير، انعكس سلبًا على واقع المرضى، بسبب قيود الاحتلال، وسياسة تخفيض أعداد التحويلات الطبية لمرضى غزة، وخفض كميات الأدوية والمستلزمات الطبية.
وذكر التقرير أن "الخدمات الصحية تحولت إلى أداة للضغط والابتزاز السياسي، وظهر ذلك جليًّا في سياسة خفض التحويلات العلاجية إلى الخارج، وتقليص كميات الأدوية والمستلزمات الطبية، الأمر الذي فاقم من معاناة السكان والمرضى منهم خصوصًا مفاقمة غير مسبوقة، وحدّ من قدرتهم على الحصول على رعاية صحية مناسبة؛ بسبب ثمن الأدوية والرعاية الصحية الباهظ".