فلسطين أون لاين

قراءة بمقومات الصمود والاستمرار في حراك مسيرات العودة

...
هشام توفيق

يَتَأَجَّجُ الْحَرَاكُ فِي غَزَّةِ يوما بعد يوم وتتصاعد معه فعاليات مسيرات العودة والأحداث المتسارعة التي لا زالت تصدم المشروع الصهيوني وأرباب صفقة القرن بعد رهاناتهم المتصاعدة، بل وأفقدت الكيان الصهيوني ومراكزه الرصدية قدرة المتابعة، وإدراك ماهية هذا النوع البشري الذي صدم الجميع بقدرته على التحرك بإرادة متحررة ثابتة صامدة تدفعه للخروج ليخطف قنبلة الغاز بأسنانه وإرادة قوية لا تعرف الإحباط والملل والكلل رغم جهود عقود الحصار، وكثافة العمليات الداخلية منها والتنسيقية مع سلطة رام الله لحصار غزة، والخارجية منها مع أرباب صفقة القرن للتطويع من حركة قوة غزة وتقويض حال شبابها.

لكن التحليلات الصهيونية تجاه مسيرات العودة كانت دون المستوى، وتحتاج إلى إعادة الدراية والدراسة بعمق الشعب الفلسطيني عموما والغزي خصوصا لمعرفة مقومات صعود إرادته وأسباب استمرار حراكه.

وأنا هنا أخفف عن الدراسات الصهيونية ثقل حملها، وأطوي عنها مسافات التفكير اختصارا ووصفا لحجم وطينة مع من يتعاملون، لأرصد لهم اختصارا دون إطناب أهم مقومات الحراك وأسس استمراره في الحاضر والمستقبل، فربما سبر أغوار هذا الحراك الذي دام نصف عام يقدم درسا للمشروع الصهيوني في كيفية التعامل مع هذا الشعب الذي يعد امتدادا لبطولات وصمود رجال الأمة عموما، ولقوى مقدسية خاصة مضت ورحلت لكنها جددت وصنعت، وتركت وراءها جيلا ورث مكامن القوة.

وأرصد هنا تحليلا لثلاثة مقومات أساس في قوة واستمرارية مسيرات العودة التي لا تعد شكلا عابرا عبثيا، بل حدثا يحسب له حساباته وتقدر له الدراسات للعبرة والتوثيق والتحليل:

ـ مقوم اليقين.

ـ مقوم الإستراتيجية المرنة.

ـ مقوم الوعي بالمرحلة.

أولا: اليقين

فِي بِدَايَةِ مَسِيرَاتِ الْعَوْدَةِ اِخْتَلَفَتِ الْأَقْلَاَمُ وَالْأَفْهَامُ فينا في سيناريوهات الحراك ومدى استمراره، وجَنَحَ بعضنا إلى صعوبة استمرار الحراك أكثر من شهرين، وآخر كتب محللا أن هذا الحراك لن يجدي نفعا أو يقدم نتائج مرجوة في غياب المصالحة ووحدة وطنية، وما دام يواجه الحراك ثلاثية الصفقة من قوة الاحتلال وورقة أمريكا بمعية أنظمة عربية مطبعة منسقة بشكل لافت وغير مسبوق.

هذه الأقلام والاستنتاجات أحترم رأيها حين اجتهدت ورأت أن دخول شباب غزة في مسار المواجهة والدفاع عن حقه دون قوة متوازنة هو انتحار وتقديم لدماء دون نتائج، لكن البعض لم يحسب تقدير مدى وصول الشعب إلى غضب وحصار خانق يستنزف الطاقات ويقتل الشعب ببطء وتدرج إلى نهاية وتصفية كاملة.

فكان أهل غزة بين خيارين إما المواجهة والغضب الميداني أو الموت بتدرج.

ولحسن الأقدار هذا الغضب تشرب من تربية مسبقة وإعداد قبلي ووعي مسبق لسنوات، وعي يفقه مستقبل المواجهة والتصفية المتدرجة، بل ولقي هذا الغضب الشبابي قيادة راشدة وقوى سياسية توجه رأيه وتحترم حرية الشعب الثائر الذي أراد المواجهة وتحرير أرضه ورفع الحصار حتى الاستشهاد والظفر.

فكان الشعب في الطليعة ومعه قواه السياسية والجمعوية والشبابية، وكانت القيادات السياسية بالإجماع محل الموافقة على الأسلوب والإستراتيجية المتبعة مع احتضان الشكل بكل الوسائل.

مع غضبة الشعب التي وصلت مداها وتنتقل من ربع إلى ربع، من غزة إلى الخان الأحمر، إلى الأقصى والخليل والضفة، ومع وجود قيادة تنهج أسلوب المشاركة الفعالة مع الشعب حرصا واحتضانا وحضورا وتدخلا في الوقت المناسب، قد لمست مقوما أساسا أضفى صبغة القوة والصمود والاستمرارية على مسيرات العودة؛ وهو مقوم اليقين.

قد شهدت إحساسا ومتابعة ورصدا أن الغضبة الغزية كانت والحمد لله صنعة ربانية وَشَّحَتْهَا تزيينا تَرْبِيَةُ وبصمة مؤسسات المجتمع والأسرة والعلم والثقافة والريادة والقيادة، ليخرج بعد إحدى عشرة سنة من الحصار شعبا له إرادة قوية ونظرة ثاقبة نابعة مِنْ يَقِينِ دَاخِلِي يُبَدِّدُ كُلّ الشُّكُوكِ فِي وَعْدِ اللهِ الَّذِي ينسج تدرجا. يقين يتعدى التصديق في الزمان المستقبلي، إلى اليقين في الإنسان القائد والقيادة الغزية البارعة التي إذا قالت صدقت ونفذت، فهزمت الاحتلال في كم من مرة.

جيل وشباب وأمة غزة خرجت للحراك ضد الاحتلال الصهيوني بيقين يكسر كل حواجز الفشل والإحباط والخوف من مستقبل الحصار والاحتلال وأرباب صفقة القرن ولو وصل الاستكبار الصهيوني علوه.

مُقَوِّمُ الْيَقِينِ لَيْسَ فِعْلَا عَبَثيا أَوْ خُرَافِيّا عقديا كما يتحدث عنه البعض الذي لا يؤمن بالوحي أو يفصل بين ميدان وإيمان، بل إن شهادات مؤلفات الغرب حول انتصارات المسلمين على الصليبيين في معارك استرداد بيت المقدس كانت تؤكد على سلاح اليقين كأسلوب عسكري ميداني كان الفاتحون يُعَلِّمُونَهُ الْأُمَّةَ وَيَتَعَلَّمُونَهُ اقتداء بسير النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن خالد بن معدان رضي الله عنه أن سيد الموقنين صلى الله عليه وسلم قال: “تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه”.

اليقين أسلوب وفعل داخلي نفسي محطم للإحباط وإن تأخرت النتائج، ودافع إلى الثقة ورفع همة الأمة المجاهدة وبروز إرادة قوية صامدة.

هكذا كان الغزيون أصحاب يقين سرت أنواره وبركاته في الشعوب وأججت روح الأمل فيهم، هو يقين كان أساسُه عاملين:

- فعل الأسباب بإبداع.

- مع توكل شديد على مسبب الأسباب وهو الله سبحانه.

ومن أهم أسباب ارتفاع مقوم اليقين في روح شباب مسيرات العودة -فضلا عن سبب اليقين الداخلي- هو العلم بخطوط ومسارات المعركة والوعي بالخطة المحكمة والرؤية الإستراتيجية في مواجهة العدو والمعرفة الحقة بمكامن ونقاط ضعف العدو وأوراقه، تؤخذ هذه المعارف من كثرة المعارك والمواجهات التي واجهها الغزيون.

وقد شهدنا يقينا شديدا وإرادة قوية من خلال مشاهد هزت العالم من صورة امرأة غزية تجر عربة لمدة أربع ساعات تحمل عليها عجلات الكوتشوك لجلبها لشباب مسيرات العودة، يقينا منها في الله ويقينا منها أن العمل الجماعي يثمر مع وجود إرادات شبابية مثل إرادة براء زقوت التي تجتاز السلك الحديدي وتصل إلى قبة وخيمة العسكر الصهيوني، بل ويسخر صاحبنا عائدا يقول: لقد وصلت بيقين لكن عليّ العودة لإرجاع قبعتي التي نسيتها.

وزد على ذلك مشهد الشهيد فادي أبو صلاح الأب العطوف الذي فقد رجليه، لكن خرج بمقلاع في حراك غزة وبيقين، وفَقِهَ أن المقعد ربما لن يدك الاحتلال دكا، وأن مقلاعه لن يفجر دبابة لكن مشهده، سيحيي أمة، ويحرق حدود سايس بيكو، وسيرسم طريقا للأجيال والشعوب ليقول: من هنا الطريق بثقة ويقين يصنع إرادة قوية.

اليقين أشد سلاح على الاحتلال؛ فوجوده يولد كل شيء، لأنه أساس ومقوم داخلي ونفسي يصنع الرجال، ويبعث على الأمل ويبشر بالنصر، وهو رؤية واضحة دون ضبابية فيمن نحارب وكيف نحارب ولماذا نحارب.

اليقين علم وإيمان، علم بخيوط المعركة والعدو وأوراقه، وإيمان فاعل من لدن الله وبذكر الله الذي يثبت الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومن أهم الأعمال الصالحة اجتثات العمل غير الصالح وهو الداء الصهيوني، من أرض الصالحين، من أرض الجبارين، من أرض الأنبياء والمرسلين.