ينتفض الرجال في غزة كما في كل مكان من هذا الوطن، لم يعد من الممكن الصبر أكثر على هذا الاحتلال الغاشم، أما ترى رجال غزة وهم يرسمون الخارطة الجديدة بالدماء، ليغسلوا عارًا واحتلالا وتخاذلًا أصاب الأم فلسطين، عاصمة الثورة ومفجرة الانتفاضات، ومنظرة لكل الأفكار الوطنية، ملهمة للكثيرين في هذا المحيط العربي والإسلامي.
تتعالى الصيحات وتتحرك جموع الشباب الملتهبة، تقتلع سياج الوهم، وتحطم الخوف وتلاحق الغاصبين الجبناء المتمترسين خلف ثكناتهم، ليسقط الشهداء الأبطال ويصاب الشباب والفتية إقبال رهيب ورغبة جامحة نحو التضحية، جراح متفاوتة في درجة الخطورة، والآلام لا يمكن وصفها، بسرد سريع من الكلمات، لكن ثورة الشباب العارمة لم تتوقف، ورغبة الجرحى في المواصلة تترك عظيم الأثر فينا وفى غيرنا، حتى الاحتلال المجرم لم يعد يفهم تفسير منطقي لهذا التصميم على الاستمرار في المواجهة. وقد استخدم أسلحته الفتاكة والسامة والمتفجرة، وصوب جيدًا إما في مقتل وإما في الأطراف، ليوقف هاتين الساقين التي ما زالت تحمل الأبطال وتسير بهم نحو الانعتاق والحرية.
هذا قراره الخبيث بدى واضحًا في حجم الإصابات ودرجة جسامتها وتركزها في مناطق وأطراف حساسة، نعم يريد وقف الخطر بأي ثمن، ويسعى لنشر الخوف، ويترك علامات وآثارًا في أجساد المصابين معتقدًا أن ذلك يمكن أن يربك ويزعزع هذا التصميم وينال من هذه الإرادة الفولاذية العازمة والقوية والقادرة على كسر الحصار ونيل الحقوق السليبة وصولًا إلى معركة التحرير.
هذا الجريح الذى يتأوه ولا ينام من شدة الألم، وحركته أصبحت محدودة وكل ساعة يطالع برنامج خاص للعلاج، ويتنقل من مشفى لآخر، لم تفارقه الأوراق والصور ومظروف العلاج، ينتظر في دوره وعكازته في يده، ومنهم من يجلس على كرسيه المتحرك، وآخر يتكئ على صديق وقد أثقلت إحدى ساقيه أسياخ البلاتين، وغيرهم ينتظرون في إسعافات للسفر خارج فلسطين، ليسافر في غربة الدنيا لينال الشفاء، لم يبخل بهذا الجسد الطاهر ليقدمه قربانًا وفداءً لفلسطين.
ثقافة متجذرة لا يمكن استئصالها من شباب فلسطين، يفرضون الأحداث ويذهبون بتضحياتهم إلى أبعد مدى ليجدوا فلسطين حرة أبية تلفظ الاحتلال، صدور وأجساد عارية في مواجهة مفتوحة بين الشباب الأعزل وبين آلة عسكرية إرهابية مجرمة، تسعى للنيل منهم بأي ثمن، إنه مشهد التضاد إذا ما نظرنا لحالة التمرد لدى جنود الاحتلال الذين يرفضون واقع الخدمة حول غزة، ولا يحتملون الخطر المحدق هناك، ويواصلون الحديث عن فقد السيطرة، والمطالبة بالدعم الجوي والتعامل بالمدفعية ليشعروا بالأمان في مواجهة هذه المسيرة، وتقدم العشرات من الشباب تجاه الحدود المحتلة الزائلة.
جندي آخر يتحزم بمعداته الطبية، ويرابط في خيامه يحمل شاشًا ومحلولًا وينتشر حوله عشرات المتطوعين، تعرفهم من ملامحهم وحقائبهم ومراويلهم البيضاء، يتحركون مع كل إشارة كسرعة البرق نحو المصاب، يستمعون جيدًا صوت الطلقات ليميلوا ميلة رحيمة نحو المصاب يضمدون جراحه ويحملونه بنقالة بسيطة أو على الأكتاف، أسمى ما يريدونه إنقاذ حياة الجرحى والمصابين، وفى مشهد قاسٍ للإنسانية جمعاء حين تتخطف طلقة غادرة أرواح ملائكة الرحمة في الحقل الطبي من الأطباء والمسعفين والمتطوعين، فالعدو المجرم يعدم هؤلاء بدم بارد لا يريد لأحد التقدم لإنقاذ الجرحى، فالقتلة النازيون تزعجهم كل ملامح الإنسانية.
ليت الأمر يقف عند هذا الحد، فإعدام الحقيقة واستهداف الصورة متواصل، لا يشفع لهذا الصحفي زيه الخاص وسترته المتواضعة وشارته العربية أو الإنجليزية، وكاميرته البارزة في وسط الميدان، فالاحتلال يخشى على نفسه من نقل الصورة وتوثيق الجريمة، فهذا ينال من مكانته عالميًا، ويثبت كذبه وتورطه، ويفسح المجال لمحاسبته في الوقت الذى يمكننا فيه ذلك، ليتساقط الشهداء الصحفيون ويصاب آخرون منهم، لكن لم يقتلوا الحقيقة ولم يطفئوا صورة الجريمة، ولم ينقطع البث المباشر لمشاهد الانتفاضة والثورة.
حراك هنا وهناك وضغوط واتصالات، أوقفوا المسيرة، العالم بدء يتحرك ويشعر بخطورة ما يحدث، فالقضية وحصار غزة تطرح على موائد اللقاءات الأممية والدولية، وأفكار تعرض بين الفينة والأخرى، لكن غزة لا تبحث أفكار ولا تتوسل العطايا ولا تنتظر الهبات الإنسانية، هي تريد تحطيم الحصار وانتزاع الحقوق والعيش بسلام جنبًا إلى جنب مع محيطها العربي والإسلامي، فلا جوار لنا مع الاحتلال ولا اعتراف بوجوده ولا تفويض لأحد إلا عبر برنامج التحرير.
راجعوا التاريخ جيدًا كيف انتهت الاحتلالات في العالم، وكيف وصلت الشعوب لاستقلالها لتقرر مصيرها، لقد سقطت كل النظريات والأفكار إلا فكرة المقاومة والتضحية ولم نجد في هامش التاريخ أنَّ الاستسلام والخوف أعاد أوطانًا أو حرَّر أرضًا، وما يدفع اليوم من دماء شيوخنا وشبابنا وأطفالنا ونسائنا، سيثمر في نهاية الطريق نصرًا وتحريرًا كاملًا لفلسطين كل فلسطين.