حالة غير مسبوقة من حضور فلسطين وتأييد حقوق شعبها تلك التي شهدها المؤتمر العام لحزب العمال البريطاني خلال الأسبوع الماضي، على صعيد الخطابات، أو الاهتمام، أو القرارات.
على صعيد الاهتمام: حضرت فلسطين بوضوح في نقاشات المؤتمر، حيث كانت الموضوع الأول في الشؤون الخارجية، ونالت أهمية رابعة على الأجندة بعد ثلاث قضايا رئيسة تهم المواطن البريطاني، بل إنها حظيت بأهمية تفوق موضوع يشغل كل مواطن وساكن في المملكة المتحدة، وهو مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أما من حيث الخطابات فقد حضرت فلسطين في خطاب زعيم الحزب جيرمي كوربن، المناضل الذي طالما دعم فلسطين، وتحدث وكأنه لا يزال نائبًا متمردًا وليس مرشحًا لرئاسة الوزراء بلغة واضحة عن دعم حقوق الفلسطينيين، وأدان جرائم الاحتلال ضد المتظاهرين السلميين في غزة، وأعلن استعداده إلى الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة بمجرد وصوله إلى السلطة.
حتى إن كوربن البريطاني الذي قد يصبح رئيسًا لوزراء المملكة المتحدة في الانتخابات القادمة انتبه لأمر تفصيلي في خطابه لم ينتبه له زعيم عربي، وهو إدانة قانون القومية اليهودي الذي سنه الاحتلال، وقنن به ممارسات "الأبارتهايد" (التمييز العنصري).
كان جيرمي كوربن يتحدث عن فلسطين بلكنة فلسطينية كنعانية، لم يتراجع عن مواقفه السابقة تحت ضغط اللوبي الصهيوني الذي هاجمه طوال الشهور الماضية بمزاعم معاداة السامية، تلك التهمة التي رفضها وأدان من يمارسونها بالقوة التي أيد بها فلسطين وحقوق شعبها.
وقد قابل أعضاء المؤتمر حماس زعيم الحزب بحماس وتعاطف مماثلين، فما إن ذكر كوربن اسم فلسطين حتى ضج المؤتمر بالتصفيق الطويل، وما إن أعلن قراره الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة حتى وقف الآلاف ورفعوا الأعلام الفلسطينية، وهو العلم الوحيد الذي رفع غير العلم البريطاني في المؤتمر.
ولكن المحامي كولين مونيهين من منطقة "إيست إيندر" كان نجم فلسطين المتوج في المؤتمر، لا شك، فقد تحدث بانفعال وشغف عن دعم توجهات المؤتمر تجاه القضية الفلسطينية، وقد انتزع التصفيق والإعجاب عندما رفض الاستجابة لطلب مديرة المؤتمر منه النزول عن المنصة لأن وقته انتهى، رد عليها مونيهين بانفعال: "لا، لم أنته بعد، فأنا أتحدث نيابة عن الفلسطينيين، وإذا أردتم أن تنزلوني عن المنصة فعليكم إحضار رجال الأمن، بل يجدر بكم إحضار جيش بأكمله، فنحن أهل "إيست إيندر" مثل الفلسطينيين لا يمكن الإطاحة بنا بسهولة".
هل كان من الممكن أن تحصل كل هذه المظاهر الجديدة من التأييد لفلسطين قبل سنة من الآن في أي حزب رئيسي في أوروبا؟، الجواب: لا، وهو جواب يحمل في طياته معنى ودلالات هذا التأييد غير المسبوق، التي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
- إن هذه المظاهر الجديدة على المناخ السياسي البريطاني تؤكد أن ما كان يحدث على هامش السياسة البريطانية والغربية قبل سنوات أصبح الآن في قلب السياسة البريطانية، وذلك بفضل وصول شخصية قوية مؤيدة للعدالة، وملتزمة بالمبادئ مثل جيرمي كوربن، هذا الأمر يمكن أن يحدث في أي دولة أوروبية أخرى، وقد كان يمكن أن يحدث بالفعل في اليونان قبل سنوات، لولا الفشل العربي بالاستفادة من فوز اليسار اليوناني الصديق لفلسطين في الانتخابات العامة، الذي اضطر بسبب الوضع الاقتصادي المنهار إلى التوجه إلى الكيان العبري، ولو وجد دعمًا عربيًّا لكان جزءًا من التيار العالمي الداعم لفلسطين، يتزامن هذا أيضًا وظاهرة مماثلة في أمريكا، تمثلت بوصول بيرني ساندرز إلى قلب السياسة الأمريكية، حيث نافس هيلاري كلينتون عام 2016م على ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية، هكذا يصبح دعم فلسطين في عمق السياسة الغربية، بعد أن كان مجرد حالة احتجاج من سياسيين على الهامش.
- إن حصول فلسطين وقضيتها على كل هذه المظاهر غير المسبوقة من الدعم في المؤتمر، رغم الهجمة العارمة على كوربن بسبب مزاعم معاداة السامية؛ يؤكد أن تيارات سياسية رئيسة في الغرب باتت قادرة على مقاومة اللوبي الصهيوني بقوة، وأنها يمكن أن تثبت على رؤيتها التي تجمع بين إدانة "معاداة السامية" والعنصرية وإدانة جرائم وانتهاكات كيان الاحتلال وتأييد الحق الفلسطيني.
- مظاهر التأييد غير المسبوق لفلسطين في مؤتمر حزب العمال البريطاني جزء من حالة التحول في الرأي العام العالمي تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، فقد أظهرت استطلاعات رأي عديدة خلال السنوات الماضية -خصوصًا بعد العدوان الحربي على قطاع غزة عام 2008-2009م- أن الرأي العام العالمي بات يستمع أكثر للرواية الفلسطينية بعد عقود من تسيّد وتفرد الرواية الصهيونية للصراع، وأشارت الاستطلاعات إلى أن تأييد فلسطين يزداد في الأجيال الجديدة الصاعدة، ولا يزال تأييد الاحتلال أكبر في الأجيال القديمة التي لم تستمع إلى سوى الرؤية الصهيونية سابقًا.
-تجب الإشارة هنا إلى أن هذا التأييد لفلسطين في الغرب لم يكن ليتصاعد لولا تزامن وتضافر حالتين: النضال الفلسطيني في الداخل، وعمل منظمات الضغط الغربية والعربية والفلسطينية في أوروبا والولايات المتحدة، لا يمكن أن تحضر فلسطين في أجندة السياسة العالمية دون نضال أبنائها الصامدين في أرضهم، ولا يمكن أيضًا أن تحضر دون عمل مؤسسات الضغط المؤيدة لها، ولنا أن نتخيل هنا حجم السوء الذي يسببه انشغال القيادات الفلسطينية عن النضال الشعبي ضد الاحتلال بقضايا هامشية، ولنا أيضًا أن نتخيل من جهة أخرى كيف كان يمكن أن تتصاعد حالة التأييد لفلسطين لو ساهمت الدول العربية القادرة ماليًّا ودبلوماسيًّا في دعم ودفع جهود مؤسسات الضغط المؤيدة لفلسطين.
وختامًا قد يتساءل بعض: وهل سيحرر حزب العمال أو ساندرز أو غيرهما فلسطين؟، وماذا سيؤثر هذا التأييد فعلًا على أرض الواقع في الصراع؟، الإجابة هنا ليست مباشرة ولا سهلة، بل هي قضية مركبة ومعقدة، ولكننا نقول بكلمة: إن الصراع مع الاحتلال هو صراع طويل، وهو صراع سينتهي ويحسم يومًا ما "بالنقاط"، وليس فقط "بالضربة القاضية"، وإن ما يحدث اليوم بفضل النضال الفلسطيني وجهود المؤسسات الداعمة له في الغرب هو أن فلسطين ومؤيديها يسجلون يوميًّا نقاطًا جديدة في هذا الصراع، ويومًا ما لابد أن يبنى على هذه النقاط لتحقيق انتصارات حقيقية في هذا الصراع الطويل.