العربي الجديد
لم يُعثر على جثّة الفلسطيني، عمر النايف، في غابةٍ في تنجانيقا، ولا انتُشلت من بركةٍ في هندوراس، ولا صودفت متروكةً في كوخٍ في الكونغو برازافيل، حتى تستعصي الحقيقة بشأن وفاته، أو مقتله على الأصح، بل شاهد الجثّةَ مدماةً، وآثارَ عنفٍ عليها، عاملون في سفارة دولة فلسطين في صوفيا، صباحا، بعد أن كان بعضُهم مع الرجل في اليوم السابق. وأن يُتحدّث هنا عن سفارةٍ فذلك يعني أنها تحوز حمايةً أمنية. ولأن عمر النايف مقيمٌ فيها، يتوسّل نجاةً وراحة بال، معتصما فيها، وقد ظنّها دارا للفلسطينيين، فالمفترض أن الحماية مضاعفة. ولكن الحال لم يكن هذا، بل كان الانكشافُ الأمنيُّ مريعًا، لا يؤشّر إلى أن ثمّة ذرةً من مسؤولية لدى القائمين على سفارة الموت هذه، وهذا هو اسمُها المستحق، والذي أحسن الزميل المدوّن، أحمد البيقاوي، في رميها به، في فيلمٍ رفيع المستوى والقيمة، وعظيم الأهمية، أنجزه عن جريمة تمويت عمر النايف هناك ليلة 26 فبراير/ شباط 2016. وهي جريمةٌ موصولةٌ بامتهان هذا المناضل الفلسطيني الذي كان قد تمكّن من عتق نفسِه من أسر الاحتلال، في عمليةٍ جسورةٍ، لمّا استغفل مستشفىً إسرائيليا أٌخذ إليه من الحبس، واستطاع، أياما من عام 1990، أن يتسلّل منه إلى مصر ثم ليبيا ثم سورية، قبل أن يستقر في بلغاريا.
بسالة عمر النايف الذي أودعه المحتلون الأسر في العام 1986، بعد عمليةٍ فدائيةٍ قُتل فيها مستوطن، يقابلها نقصانٌ فادحٌ في المروءة والحياء لدى طبيبٍ في المسالك البولية، اسمُه أحمد المذبوح، عيّنوه سفيرا في صوفيا، لم ير في هذا الفدائي سوى عبءٍ عليه، فلم يتعطّف عليه بأي اكتراثٍ جدّيٍّ بحراجة حاله، بعد أن طالبت (إسرائيل) به حكومة بلغاريا. سمّم حياته شهرين ونصف الشهر. ولم يكتف بشناعة فعلته تلك، بل عمد إلى ترويج أن الشهيد أنهى حياته منتحرا، في إساءةٍ جارحةٍ معلومة الغرض. وما كنّا نعرف أكثر من هذا، لولا الكشف الكثير الإفادة الذي يخبرنا به أول فيلمٍ من نوعه في صحافة المواطن، الفيلم الاستقصائي الذي أنفق فيه أحمد البيقاوي جهدا دؤوبا، الكشف عن عبثٍ أعملَه موظفون في سفارة الموت تلك في موقع الجريمة، وفي هاتف المغدور، وفي كثيرٍ مما كان سيُسعف في تعيين طريقة القتل، قبل أن تتعجّل الشرطة البلغارية في شغلها، وتعد تقريرا ضعيفا.
ليس من وظيفة الصحافي أن يكون شرطي تحقيق، ولا قاضيا في محكمة، وإنما من صميم عمله أن يتوسّل الحقيقة، وأن يتنكّب كل وسائل الوصول إليها، وهذا ما صنعه أحمد البيقاوي. لقد عمل، بدأبٍ وهمّةٍ ملحوظيْن، على تأكيد أمرٍ يُراد منا التعمية عليه، موجزُه أنه ليس هناك قرار سياسي فلسطيني لإشهار حقيقة ما جرى في تلك الليلة المشؤومة في "أرض فلسطينية" في العاصمة البلغارية. ومؤكّد أن كثيرين في مواقع مسؤوليةٍ متقدّمةٍ في الأمن والخارجية الفلسطينيين، في رام الله، وكذا في أوساط أحمد المذبوح في سفارته هناك، قد امتعضوا أيّما امتعاضٍ من وجع الرأس المستجد الذي تسبّب به لهم أحمد البيقاوي، وهو الذي تسلّح فيلمه المتقن بوثائق وشهاداتٍ وتسجيلاتٍ وصور وتفاصيل موثّقة، فقد كان رهان هؤلاء وأولئك على النسيان، فثمّة جرائم اغتيال عديدة قضى فيها فلسطينيون مضت إلى الأرشيف الذي يُؤثر منسوبون كثيرون إلى فلسطين وقضيتها أن يبقى من دون أي نبش. ولكن يفعلها مدوّن فلسطيني مجتهد، يريد أن يعلن لهؤلاء أن عتمة الليل لم تكن على قد يد السارق، لمّا أريد للمناضل عمر النايف تدبيرٌ ما، ملتبس، فثمّة في رام الله، وزيرٌ بلا حيثيةٍ متعلقةٍ بالملف كله، ينخرط في القصة بدورٍ مبهم، بتعاونٍ مع مافيا بلغارية، سمعنا في الفيلم من يقول إن ذلك كان بغرض إخراج عمر النايف من السفارة إلى خارج بلغاريا.. وهذه واحدةٌ من أُحجياتٍ ملغزةٍ في موضوعٍ لا يجوز، أخلاقيا ووطنيا وسياسيا، إقفالُه. وكافٍ مما صنعه المدوّن الشجاع أنه أكّد على هذه البديهية، فبقّ بحصةً ثقيلة، مفادها بأنه لا حاجة للجان تحقيق جديدة، ولا شعارات ولا بيانات، وإنما مجرّد قرار فلسطيني يُلزم الساكتين بقول الحقيقة.. تُرى، هل نعيش إلى يومٍ كهذا، نشهد فيه أمرا كهذا؟ لا، على الأرجح، بدليل أنه على الرغم من كل الذي جرى، فإن أحمد المذبوح ما زال سفير دولة فلسطين في صوفيا.