"يسرقون رغيفك.. ثم يعطونك منه كِسرة.. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يا لوقاحتهم!". كلمات الروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني قبل عقود طويلة، يراها المراقبون معبرة عن واقع الإجراءات العقابية التي تفرضها السلطة على قطاع غزة، في ظل مواقف يصفونها بأنها "انفرادية" من جانبها، جعلت ملف المصالحة الوطنية يراوح مكانه.
في مارس/ آذار 2017، صادق المجلس التشريعي على اللجنة الإدارية الحكومية في قطاع غزة، "لسد الفراغ" الناجم عن عدم قيام حكومة رامي الحمد الله بمهامها تجاه القطاع، فاتخذ رئيس السلطة محمود عباس من اللجنة ذريعة لفرض سلسلة من الإجراءات التي وصفها بـ"غير المسبوقة"، وطالت مناحي الحياة الأساسية للغزيين المحاصَرين منذ 12 سنة.
وترفض حكومة الحمد الله منذ تشكيلها في 2014، صرف رواتب الموظفين الذين عينتهم الحكومة الفلسطينية السابقة برئاسة إسماعيل هنية في القطاع، كما أنها لا تصرف موازنات تشغيلية للوزارات بما في ذلك الصحة.
وادعى عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" عزام الأحمد، في حديث لوكالة "قدس برس" في أغسطس/آب 2017، أن حل اللجنة الإدارية الحكومية في غزة كفيل بإنهاء الإجراءات العقابية.
لكن العقوبات التي تفرضها السلطة مستمرة، رغم إعلان حركة المقاومة الإسلامية حماس، في 17 سبتمبر/أيلول 2017، حل اللجنة الإدارية "استجابة للجهود المصرية"، الرامية لتحقيق المصالحة الفلسطينية. ودعت حماس في بيان لها, آنذاك، الحكومة للقدوم إلى قطاع غزة؛ لممارسة مهامها والقيام بواجباتها فورا، كما أكدت موافقتها على إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة.
وفي الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2017، وصل الحمد الله وحكومته قطاع غزة للمرة الثالثة بحضور وفد أمني مصري، لكن الحكومة أنهت أول اجتماع لها في اليوم التالي دون التوصل لنتائج ملموسة، برفع العقوبات عن القطاع.
وكان الحمد الله وصل القطاع كرئيس للحكومة لأول مرة في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2014، بينما الزيارة الثانية في 25 مارس/آذار 2015.
ووقّعت حركتا حماس وفتح، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017 في القاهرة على اتفاق لتحقيق المصالحة، بحضور مدير المخابرات العامة المصرية السابق خالد فوزي.
وتسلّمت هيئة المعابر والحدود في السلطة رسميا مسؤولية معابر القطاع، في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حسب الجدول الزمني الذي حدده الاتفاق، بيد أن الحمد الله ربط عمل هذه المعابر بالملف الأمني، في خطوة أثارت جدلا حول نوايا السلطة واعتبرها البعض توجها نحو "الإحلال والوصاية" بدلا من الشراكة.
ويسود اعتقاد على نطاق واسع، بأن السلطة تسعى إلى فرض سياسة التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال في قطاع غزة على غرار الضفة الغربية، وهو أمر مرفوض وطنيا، وفي المقابل وصفه رئيس السلطة محمود عباس يوما بأنه "مقدس"، كما سبق للرجل الثمانيني أن قال "أنا ضد المقاومة.. أنا علنا بحكي، أنا ضد المقاومة علنا".
وخلال لقاء تلفزيوني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، قال عباس: "هناك دولة واحدة بقانون واحد بسلاح واحد"، مضيفا: "كل شيء يجب أن يكون بيد السلطة الفلسطينية، وأكون واضحا أكثر لن أقبل أو أستنسخ تجربة حزب الله في لبنان"؛ على حد تعبيره.
"ميزانية انفصال"
بينما قال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في لقاء متلفز، في الشهر نفسه: "سلاح الحكومة والشرطة وأجهزة الأمن الحكومية هذا بالتأكيد سلاح واحد، وهناك سلاح المقاومة طالما أن هناك احتلالا صهيونيا على الأرض الفلسطينية فمن حق شعبنا أن يمتلك سلاحه وأن يقاوم هذا الاحتلال بكل أشكال المقاومة".
ووصل الحمد الله أيضًا قطاع غزة في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2017، دون اتخاذ أي قرار برفع العقوبات عن الغزيين.
كما أن حكومة الحمد الله تنصلت من بند نص عليه الاتفاق الأخير، وهو استمرار استلام الموظفين رواتبهم التي كانت تُدفع لهم، اعتبارا من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، إضافة إلى سرعة إنجاز اللجنة القانونية الإدارية المشكلة من الحكومة لإيجاد حل لموضوعهم قبل الأول من فبراير/شباط الماضي.
وفي 27 فبراير/شباط 2018، أقرت الحكومة في اجتماع مشترك بين الضفة وغزة عبر تقنية "فيديو كونفرنس"، ما وصفها مراقبون بأنها "ميزانية انفصال"، إذ تحدثت عن أنه "تم إعداد موازنة الأساس مع الأخذ بعين الاعتبار بقاء الوضع الحالي القائم في قطاع غزة"، وأنه "تم إعداد موازنة موحدة في حال تحقيق المصالحة."
ووقع في 13 مارس/آذار 2018، انفجار لم يسفر عن إصابات، أثناء مرور موكب الحمد الله في منطقة بيت حانون شمال قطاع غزة، بحسب المتحدث باسم وزارة الداخلية إياد البزم، الذي أكد في تصريح صحفي آنذاك أن الأجهزة الأمنية تحقق في ماهية الانفجار.
واتهمت "الداخلية" في غزة، في 28 أبريل/نيسان 2018 جهاز المخابرات العامة في رام الله بالمسؤولية عن محاولة تفجير موكب رئيس الحكومة ومحاولة اغتيال المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء توفيق أبو نعيم عبر "خلايا إجرامية" جرى تشكيلها وإدارتها عن بعد لغرض نسف الاستقرار الأمني في القطاع.
وفي الثامن من أغسطس/أب 2018، أكد المكتب السياسي لحماس أنه يتعامل مع الجهود المختلفة التي تبذلها أطراف عدة ولاسيما "الأشقاء في مصر" لتحقيق المصالحة ورفع الحصار، بعقل وقلب مفتوحين، اعتبارا لمصالح الشعب الفلسطيني، وحرصا على إنهاء الحصار، مؤكدا أنه لا أثمان سياسية لذلك، ولا تنازل "عن حقنا في سلاحنا ومقاومتنا والوحدة الجغرافية والسياسية بين الضفة والقطاع".
وتدعو حماس بصفة مستمرة إلى إعادة بناء مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير باتفاق وطني ووفق كل الاتفاقات والتفاهمات الوطنية التي عقدت في القاهرة وبيروت.
"مجالس انفصالية"
ويرفض عباس حتى اللحظة، عقد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، وفي المقابل عقد مجالس منظمة التحرير بشكل انفصالي في رام الله المحتلة بعيداً عن الإجماع الوطني، منها اجتماع في نهاية أبريل/ نيسان 2018، وآخر شهر أغسطس/آب المنصرم، لم تشارك فيه حركتا حماس والجهاد الإسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية والمبادرة الوطنية الفلسطينية، وغيرهم.
ووصف عضو المكتب السياسي لحماس، د. خليل الحية، لصحيفة "فلسطين"، في الأول من الشهر الجاري، موقف السلطة و"فتح" مباحثات تثبيت وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة بأنه "مخيب للآمال" و"سلبي"، وأنه يعرقل مساعي رفع الحصار.
وتشمل الإجراءات العقابية التي تفرضها السلطة منذ مارس/آذار 2017، الخصم من رواتب موظفيها في القطاع دون الضفة الغربية، وتأخير صرفها، كما مست مجالات حيوية كالصحة والكهرباء والوقود، وغيرها.
ويقول مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، محسن صالح: "ما كنا نتمناه من قيادة فتح وخصوصًا عباس أن يستقبل إجراءات حماس بالكثير من الترحيب ويقوموا من طرفهم بمجموعة إجراءات نحو الوحدة الوطنية وتطبيق المصالحة على الأرض".
لكن صالح يعرب في حديث مع صحيفة "فلسطين"، عن أسفه الشديد لكون عباس لم يقم بذلك على الأرض، على الرغم من أن حماس بادرت بخطوات مختلفة نحو المصالحة، وفتحت المجال للسلطة لإدارة قطاع غزة.
ويوضح صالح أن قيادة "فتح" أصرت مخالفة النظام وترتيبات اتفاقات المصالحة، بمعنى أنها أرادت أن تسيطر على السلاح والأمن و"ما فوق وتحت الأرض"، بعكس ما هو متفق عليه في منظومة المصالحة، كما أنها لم تتخذ أي إجراء مرتبط بإنهاء الإجراءات العقابية.
ويعتقد صالح أن موقف عباس والسلطة "محاولة للضغط إلى أقصى ما يمكن، على حماس لفرض اشتراطات غير متسقة مع برنامج الشراكة الوطنية والمصالحة".
وكان يجب أن تكون قرارات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومنها الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة" مزعومة لكيان الاحتلال، دافعا للسلطة لتكون أكثر انفتاحا وميلا لإعادة ترتيب البيت الوطني الفلسطيني، بما يعزز صمود الشعب في مواجهة المؤامرات، لكن الذي حدث أن عباس لم يدع الإطار القيادي المؤقت للمنظمة للانعقاد، بحسب صالح.
ويذكر المحلل السياسي، أن عباس عقد مجالس منظمة التحرير بشكل انفصالي يعاكس الترتيبات المتفق عليها في بيروت في 2017.
ويخلص إلى أن عباس اتخذ إجراءات أضعفت الصف الوطني، بدلا من أن تكون هناك إجراءات ذات طبيعة إيجابية تعزز مفهوم المصالحة والشراكة، مشيرا إلى أن رئيس السلطة "عزل نفسه" فيما يتعلق بإدارة المشروع الوطني، وهذا معناه أن أداءه تجاه مساعي إنهاء الانقسام "سلبي".