العواقب النفسية للضرب كثيرة، ولكن ماذا إن كان الضرب مؤذيًا جسديًّا وتسبب للطفل بجروح أو كسور أو حروق؟، ما آثاره؟ وهل يكون تجاوزه سهلًا؟، وما الذي يدفع أبًا أو أمًّا إلى استخدام هذا العنف بحق فلذة الكبد؟
لماذا أنا؟
الأربعينية "رجاء محمد" ذاقت في طفولتها مرارة التعذيب بالسجائر، فكان والدها يضربها بشدة، إذا ما غضب منها لأي سبب، مهما كان تافهًا، وكان إذا ما تصادف غضبه وتدخينه للسجائر فإنه يحرقها بها.
تقول: "ألفتُ الضرب الشديد إلى حد البلادة، أحيانًا لم أكن أبكي، وإن كان الضرب مؤلمًا، ولكن السجائر كانت تمثل لي شبحًا، لأنني كنت طفلة أخاف النيران، فكيف إذا كنت أحرق بها؟!".
تضيف: "كنت أتألم من الحرق، وأتأذى جسديًّا ونفسيًّا، إضافة إلى الآثار التي تتركها السجائر على جسدي، وكنت أذوب خجلًا عندما يلحظها الآخرون"، متابعة: "لم يكن والدي يُعنّف إخوتي بالطريقة نفسها، ولطالما بحثت عن سبب مقنع لما يفعله معي، ولكني لم أجد تفسيرًا حتى الآن".
وتكمل: "حاليًّا أفعل كل ما بوسعي لأكون بارة بأبي، وأقاربي الذين يعرفون ما مررت به في طفولتي يستغربون علاقتي به، ولا أخفي أنني أيضًا أستغرب في بعض الأحيان، ولكن أيًّا كان شكل معاملتي له؛ فذاكرتي لا تزال تحمل الكثير من المشاهد المؤلمة".
وقعت عن الدرج
وتتحدث "رنا صافي" عن ردّ فعل ابنتها ذات السنوات التسع عندما ضربها والدها بعلبة خشبية على وجهها، إذ كانت الطفلة حريصة على إخفاء هذه الحقيقة، وكذلك كان الأب.
تقول: "ضربت ابنتي أخاها الأصغر منها، فما كان من زوجي إلا أن ألقى عليها علبة خشبية مخصصة للمحارم الورقية، فأصابت العلبة وجهها مباشرة، وأدت إلى تورّم خدّها، وأصبح لونه أزرق، واضحًا جدًّا".
وتضيف: "كانت صدمة الطفلة كبيرة من رد فعل والدها، لكن كان الأسوأ لديها هو خوفها من سؤال أقرانها من الأقارب، وزميلاتها في المدرسة عن السبب، فهي لا تريد أن تخبر أحدًا أن والدها ضربها بهذه القسوة، ولذا كانت تجيب كل من يسأل بأنها وقعت عن الدرج".
تبكي يوميًّا
وتتذكر "إلهام الشوبكي" في حديثها لـ"فلسطين" زميلة لها في الصف الثالث الابتدائي، وعنها تقول: "كانت لي زميلة جميلة جدًّا، ولكن وجهها ذو البشرة البيضاء كان ملطخًا بالأزرق والأحمر دومًا على هيئة تورمات صغيرة، إضافة إلى أنها كانت تبكي يوميًّا".
وتضيف: "بعد مدة من بداية العام الدراسي عرفنا أن تعاني من ضرب والدها لها باستمرار، وبقدر كبير من العنف، وأنها تبكي لهذا السبب"، متابعة: "لا أعرف ماذا حلّ بهذه الزميلة حاليًّا، ولكن لا أنسى منظرها مطلقًا، فقد كنت أنا وباقي الزميلات في الفصل نتألم لأجلها، وكثيرًا ما أتساءل عن علاقتها بوالدها".
تكرار الخطأ
من جانبه يقول الاختصاصي النفسي والتربوي الدكتور إياد الشوربجي: "اتباع الأساليب الخطأ في التعامل مع الأبناء _ومنها العنف_ ناتجٌ عن جهل الآباء والأمهات بالطرق التربوية الصحيحة، ما يجعلهم يلجؤون إلى الضرب المؤذي بكل آثاره الخطيرة على الابن في الحاضر والمستقبل، ومنهم من يظن أن القسوة تصنع شخصيات قوية يتمتع بها الأبناء عندما يكبرون".
ويضيف لـ"فلسطين": "إضافة إلى الجهل هناك أسباب نفسية ناتجة عن التربية التي تلقاها هؤلاء الآباء والأمهات، فقد يكونون ذاقوا الشكل نفسه من العنف في طفولتهم، وعندما كبروا كرروا الخطأ نفسه لا إراديًّا، ونتيجة طبيعية لما مرّوا به".
ويبين أن الأصل أن يكون الأبوان مصدر الحنان والمحبة والبيئة الآمنة للطفل، وإن وجد منهما عكس ذلك؛ فالأضرار النفسية ستكون كبيرة، ومنها عدم الإحساس بالأمان والاستقرار، والشعور بأنه منبوذٌ من الوالدين، وربما يصبح عدوانيًّا وشرسًا تجاه الآخرين، أو يحدث العكس فيكون ذا شخصيةٍ ضعيفة ومهزوزة، ما يجعله يميل إلى العزلة والانسحاب.
ويتابع الشوربجي: "عندما يكبر هذا الابن قد يصبح مؤذيًا للآخرين، ويتعامل معهم بأساليب غير صحيحة، وخاصة مع أبنائه، إذ سيكرر خطأ والديه على الأغلب، وهذا لأن السنوات الأولى تُبنى فيها شخصية الطفل".
ويلفت إلى أن الضرب الذي تبقى آثاره الجسدية ظاهرة مدة طويلة يصعب نسيانه، فكلما رأى الفرد العلامة التي تركها العنف الوالدي على بدنه تذكر كل المصاعب التي مرّ بها، وبذلك يبقى يعاني باستمرار.
ويشير إلى أن الآثار التي يتركها الضرب المؤذي بدنيًّا تجعل الطفل يعاني طوال مدة بقائها على جسده، إذ يخشى أن يعرف الناس ما حلّ به، ويخجل من ذلك لأنه في نظره نقيصة بحقه.
وبحسب حديث الشوربجي قد يحمل الابن الانتقام تجاه والديه عندما يكبر، ولكن هذا لا يحدث دائمًا، معقبًا: "مهما كان الابن جيدًا في التعامل مع الأهل الذين عاملوه بقسوة؛ فإن الضرب يبقى مدفونًا في ذاكرته ولا يُمحى".
ويقول: "العواقب النفسية لهذا الشكل من العنف تختلف حسب شخصية الطفل ومدى حساسيته للإهانة، إضافة إلى عدد مرات تعريضه للعنف؛ فمن يتلقى الضرب المؤذي جسديًّا مرة واحدة ليس كمن يقضي طفولته في ظل هذه القسوة".
ويضيف: "إذا أدرك الأبوان خطأهما والابن لا يزال في مرحلة الطفولة؛ فالعلاج سهل، وترميم الشخصية ممكن بالتوقف عن العنف، واتباع بدائل تربوية مناسبة، واللجوء إلى الحوار والتفاهم، وإعطاء الابن جرعات مكثفة من الحب والحنان".
ويتابع: "أما بعد أن يكبر الابن يصبح الأمر أكثر صعوبة، إذ لابد من احترامه والاعتذار إليه عمّا سبق من عنف، وتأكيد له أن هذا الخطأ كان من باب الحرص وليس بهدف الإيذاء".