الطريق الذي سلكه الشهيد محمد توفيق العرعير (28 عاماً) لم تكن مفروشة بالورود، بل هي طريق صعبة لا يسلكها إلا أصحاب الهمم والإرادة العالية، وهي طريق التضحيات والمقاومة والفداء بالنفس، فقبل خمسة أعوام كان العرعير بين الحياة والموت بعد انهيار نفق للمقاومة وتوقع الجميع أنه سيرحل شهيدا.
لكن قدر الله له أن يكمل المشوار، وتخطى فترة العلاج لعدة أشهر بعد إصابته التي جعلت قدمه "عرجاء" تلازمه طيلة السنوات التي عاشها، لكنها لم تمنعه من المشاركة ببسالة في التصدي للاحتلال الإسرائيلي عام 2014، قصف الاحتلال بيتهم ولكنه لم يضل الطريق.
كان محمد، وهو أب لطفلين لانا (4 أعوام) وتوفيق (عامان ونصف)، يستعد للانتقال من العيش في غرفة ببيت العائلة، إلى شقة مستقلة بأسرته. كان يجهز غرفة لطفليه لينعموا بسعادة وفرح، لكن القذيفة الإسرائيلية التي سقطت على والدهم أثناء عمله في قوات "حماة الثغور" الأربعاء في 26 يوليو/ تموز 2018، حرمتهم من هذه السعادة إلى الأبد، وحولت الفرحة المنتظرة إلى حزن دائم.
الدموع تنطق
في بيت العزاء، لم يستطع والد الشهيد النطق بحرف واحد، كانت الدموع تغطي الحروف كلما حاول الكلام، ليصمت وتنوب عنه الدموع في رواية القصة فأي وجع أصعب حينما تسكب العيون أحزانها في كأس المرارة، وهي ترسم لوحة من جراح، فوالد الشهيد الذي لديه تسعة من الأبناء (ست بنات وثلاثة ذكور) انتظر سبع سنوات حتى رزق بابنه البكر محمد، وكان هو سنده في هذه الحياة.
أكرم "19 عاما" وهو شقيق الشهيد ناب عن والده في الحديث لمراسل صحيفة "فلسطين"، كانت عيناه تبوحان بالحزن تبرقان بالدموع يحاول التماسك ولملمة بعض الحروف والكلمات من وسط الحزن، يغوص بين الجراح إلى أعماق الذاكرة، يعود إلى قبل خمسة أعوام حينما أصيب شقيقه محمد إثر انهيار نفق عليه عام 2013، مكث على إثرها 20 يوما بالعناية المكثفة سببت له ضيقًا في التنفس وظل يتنفس على الأجهزة الطبية، "ذهبنا إلى المشفى والجميع قال لنا إنه شهيد حتى الأطباء توقعوا ذلك" يقول أكرم.
لكن شاء القدر أن يخرج محمد من العناية، ويظل أربعة أشهر مستلقيا على ظهره لا يستطيع التحرك، سافر للعلاج إلى مصر ليعود بعدها إلى غزة، واستكمل العلاج لكن الذي تغير فيه أن إحدى قدميه قصرت 2سم، مما سبب له عرجة أثرت على حركته في المشي، بنبرة صوت مختلطة بالألم يكمل: "رغم الألم والإصابة واصل محمد حياته وظل مرابطا مجاهدا شارك في معركة العصف المأكول ببسالة ورزق بعد الحرب بطفليه لانا وتوفيق".
شقة فارغة
في آخر يوم عاشه مع العائلة، كان محمد سعيدا بعد أن انتهى العمال من وضع البلاط في شقته، وكان يجهز لإحضار عامل الدهان لطلاء جدران المنزل بألوان زاهية في اليوم التالي، خاصة غرفة الأطفال.
احتسى أكرم جرعة من ألم ثم واصل: "عندما انتشر خبر استهداف الاحتلال لنقطة تتبع الضبط الميداني، بدأ القلق يتسلل إلى أفراد هذه العائلة، خاصة والدي، حاولت إشغاله وإقناعه أن محمدًا ليس مستهدفا، حتى لا يصاب بصدمة لا يتحملها، لكن الخبر الذي صعب إخفاؤه طويلاً نزل عليه كالصاعقة".
يتوقف شقيقه عن الكلام تبرق عيناه بشدة كانت دمعة تهرب تلو الأخرى من العين إلى خده، يمسح دموعه ويكمل بعد أن تمالك نفسه "لقد حفظ شقيقي نصف أجزاء القرآن الكريم، وتعجبت من استطاعته ذلك، لكن كنت أدرك أنه يحمل إرادة كبيرة في قلبه".