وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" نشأت بموجب قرار أممي عام 1949، وبما أن مظلتها دولية، فيجب توقّع تسييس عملها من البداية، وانعكاس الموازين الدولية على تركيبة إدارتها، وطريقة أدائها، ومسارها بشكل عام. كما أن حكومات الدول النافذة عوّدتنا منذ تأسيس الأمم المتحدة ولجانها، أن هذا التمويل يكون أولاً مشروطاً بعدم تعارض عمل اللجنة، أو الهيئة، أو المنظمة، مع سياسات الدول المانحة. وثانياً لا تنفكّ محاولات هذه الحكومات عن محاولات فرض سياستها ومسار الهيئات المموَّلة.
فبدايةً "أونروا" لم يكن تأسيسها كرمى لعيون اللاجئين، بل لأهداف أخرى، منها محاولة تهدئة غضب اللاجئين الفلسطينيين والجماهير العربية التي كان غضبها يزداد مع رؤية المصاعب التي يعانيها اللاجئون الفلسطينيون. وهي ثانياً جاءت لتحفظ استقرار الدول العربية التي هُجر الفلسطينيون إليها، وكانت بمعظمها دولاً ناشئة.
وأخطر هذه الأهداف أن إطلاق عمل "أونروا" كان تكريساً للأمر الواقع. فتأسيسها جاء وكأنه موافقة مواربة من المجتمع الدولي أنه لن تكون هناك مساع جدية لإعادة اللاجئين الفلسطينيين، وأن القرار 194 لتنفيس الغضب لا أكثر، وما على العرب إلا أن يفكروا بكيفية إغاثة هؤلاء اللاجئين، وعدم مقارعة (دولة) مجاورة صنعتها اتفاقيات دولية، وليس أدلّ من هذه الاتفاقيات والتوافقات أكبر من أن اعتراف الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بهذا الكيان جاء متزامناً، وبسرعة كبيرة.
موضوع التمويل، يظهر أنه تُرك قصداً للالتزام الطوعي، ولم يُقتطع من الميزانية العامة للأمم المتحدة، حتى يبقى خاضعاً لمزاج الدول المموّلة، وأن لا يتحرر من سياستها أبداً. وإذا ما قرر المجتمع الدولي، أو الدول النافذة فيه، إيقاف عمل الأونروا في يوم من الأيام، فيمكن أن يوقفها تحت ذريعة وقف التمويل، الذي يُستخدم في العادة لابتزاز هذه الوكالة الدولية.
في السنوات الأولى لتأسيس "أونروا" استطاع كثير من الوطنيين الوصول إلى مراتب متقدّمة في هذه الوكالة، لكن مع مرور السنوات كانت سياسة "أونروا" تصير أكثر تشدداً شيئاً فشيئاً، فلا تسمح بالبروز إلا نادراً لمثل هكذا شخصيات وطنية. وازداد تغوّل الموظفين الدوليين، دون أن ننفي أن بعضهم حاول جدياً تطوير الأونروا، وتعاطف مع قضايا اللاجئين الفلسطينيين.
وخلال انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000، استجابت "أونروا" لضغوط الكيان الصهيوني وبعض الدول المموّلة، ومنعت موظفيها من تعاطي الشأن الوطني، بل أجبرتهم على التوقيع على تعهد بعدم ممارسة أية نشاط سياسي، وهذا مستغرب من أن يُمنع أناس تحت الاحتلال من ممارسة السياسة بموجب قرار من وكالة تابعة للأمم المتحدة، على الرغم من أن المعاهدات الدولية تقر بمقاومة المحتل.
ولا يفوتنا أن أكبر مظهر من مظاهر تسييس "أونروا" كان بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، حين أطلقت "أونروا" برنامجها للسلام، فأغدقت الأموال على مناطق السلطة، وحرمت اللاجئين خارج هذه المناطق من كثير من حقوقهم.
فلم يكن مستبعداً إزاء هذا الواقع التسييسي لعمل "أونروا" أن تلجأ الولايات المتحدة، في إطار الحديث عما يُسمّى "صفقة القرن"، إلى تخفيض مساهمتها المالية بميزانية "أونروا"، في محاولة لإرضاخ اللاجئين الفلسطينيين. لكن من يعرف هؤلاء اللاجئين، وتاريخهم في المقاومة، ورفضهم أن تكون لقمة عيشهم بديلاً من كرامتهم، يُدرك أن محاولات ترامب ستبوء بالفشل.