(لو) كان الصهاينة على يقين بأنهم سينتصرون على غزة إن هاجموها عسكريا لما ترددوا لحظة واحدة في شن الحرب. تجاربهم الحربية مع غزة في ثلاث حروب متتالية أعوام 2008/2009، 2012، 2014 علمتهم أن عظام غزة قاسية وعصية على الكسر. لقد فشل جيش الصهاينة في هذه الحروب، وكلما كان يتقدم في القطاع بضعة أمتار كانت النيران تواجهه من كل جانب، ودون أن يدري من أين قفز المجاهدون. وكان في كل مرة يتقهقر مهزوما أمام المجاهدين الأشداء الذين نذروا أنفسهم لله سبحانه وتعالى.
لا يوجد توازن عسكري بين غزة والصهاينة، بل لا مقارنة بين قوة غزة العسكرية والأقرب إلى البدائية وبين القوة التسليحية الصهيونية. يملك الصهاينة أعتى أنواع الأسلحة الأمريكية، وهم يحرصون دائما على تطوير قدراتهم التسليحية والتقنية والاستخبارية، لكن المقاومة الفلسطينية تتفوق على الصهاينة تكتيكيا. طرحت المقاومة الفلسطينية على نفسها السؤال التالي: كيف بنا تطوير أساليب عسكرية ميدانية للتحايل على قوة الأسلحة الصهيونية وتحييدها بحيث تصبح غير فعالة من الناحية الحربية؟ قالت العقول الفلسطينية إن هذا ممكن إذا صممنا مخططا عسكريا يقلل بصورة حادة من فعالية الطيران، ويلحق ضعفا كبيرا بسلاح المدرعات والدبابات. فكانت الحرب الساكنة.
هناك نوعان من الحروب: حرب ساكنة وأخرى متحركة. يخوض الجيش النظامي عادة حربا متحركة بمعنى أنه فوق الأرض ويقاتل في الحقول والجبال والوديان والأجواء والمياه. إنه يواجه العدو وجها لوجه ويعمل على تدميره من خلال تكتيكات عسكرية غير ثابتة وإنما دائمة الحركة. أما الحرب الثانية فهي الساكنة والتي تعني نصب الكمائن الخفية التي تفاجئ العدو وتسبب له إرباكا ميدانية يضطر معها إلى التراجع والتفكير من جديد في كيفية المواجهة. ولهذا كانت الأنفاق كوسيلة عسكرية ناجحة في اصطياد الجنود والمدرعات والدبابات، وإفشال الطيران الحربي.
غزة لا تستطيع الآن، وفق ما يتوفر لدينا من معلومات تسليحية، خوض حرب فوق الأرض، وبالتالي لا تستطيع أن تهاجم بجنود يتقدمون، لكنها تستطيع الهجوم الساكن، أي من مكان ثابت يحفظ لها كمائنها. غزة تستطيع الآن الدفاع عن نفسها، وإفشال الجيش الصهيوني ورده على أعقابه، لكنها لا تستطيع حشد قواتها فوق الأرض والتقدم نحو مواقع العدو العسكرية وتحرير الأرض.
تم اختبار هذا التكتيك العسكري مرة في جنوب لبنان وثلاث مرات في غزة، وفي كل مرة كان ينسحب الجيش الصهيوني بنتائج مرة غير التي رغبوا بتحقيقها. ومجمل الحروب على المقاومة أدى إلى نتائج على الصهاينة أهمها:
زعزعة ثقة الصهاينة على مختلف المستويات بجيشهم، وسقوط مقولة الجيش الذي لا يقهر أمام أقدام المقاومين. اعتاد الصهاينة على أن حروبهم مع الجيوش العربية ليست إلا مجرد نزهة قد تطول قليلا وقد تقصر، لكن المقاومة أثبتت أن حروبهم قاسية وصعبة، وأن تلك الانتصارات التي كانوا يحققونها لم تعد ممكنة.
مع اهتزاز ثقة الناس الصهاينة بجيشهم، أخذ منسوب شعورهم بالطمأنينة والأمن يترنح. أخذ الناس يدركون أن قوتهم ليست مطلقة وأن العرب لا يمكن أن يستمروا متخاذلين منهزمين. أعداد متزايدة من الناس أخذت تدرك أن المقاومة العربية فعالة وتملك قدرات كبيرة تؤثر سلبا على قدرات جيشهم.
وبسبب تدهور الشعور بالأمن، أخذت الجبهة الداخلية الصهيونية تهتز بخاصة أن جيش الصهاينة أخذ يتدرب على أمور عسكرية لم تكن واردة من قبل مثل تحرير مستوطنات وبلدات صهيونية من قبضة المقاومة، والبحث عن تقنية متطورة لاكتشاف الأنفاق، وتطوير فن عسكري جديد اسمه حرب الأنفاق.
بالإضافة لذلك ، انخفض مستوى الانضباط في الجيش الصهيوني، وهذا صحيح من الناحية العلمية من حيث أنه يترتب على الفشل تبعات نفسية ومعنوية. الجندي الصهيوني لم يعد ذلك الجيش الذي كان، ومرحلة بناء الدولة انتهت لتتطور مرحلة الرفاهية والحرص الشديد على الحياة. تتغلب على الجندي الصهيوني الآن عقلية القتال بدون موت. هو يريد أن يبقى داخل علبة تحيط بها كل مستلزمات الحيلولة دون الموت.
ولهذا لا يجرؤ الصهاينة على شن حرب لا يعرفون نتائجها، بل ربما يتوقعون الخسارة بالقياس مع مغامراتهم الحربية السابقة.
وإذا كان لهم أن يشنوا حربا فإنهم سيعملون على تعويض خسارتهم لها بضرب المدنيين. هذا ما يحصل دائما، إذ يعمل جيش الصهاينة على قتل أعداد غفيرة من المدنيين وتهديم بيوتهم ليرفعوا من معنويات الناس الذين يتابعون مجريات الحرب. وقتل المدنيين وتدمير البيوت لا يشكل نصرا وإنما يعبر عن سوداوية وإرهاب وبشاعة اليهود الصهاينة. وكلما قام الصهاينة بهذه الأعمال خسروا مزيدا على الساحة الدولية.
بحساب الربح والخسارة، الصهاينة لن ينفذوا تهديدهم بشن حرب على غزة تحت المعطيات العسكرية الحالية. هم عدوانيون وقتلة ومجرمون، لكنهم يحاولون دائما تجنب الإهانة العسكرية وضياع هيبة الجيش. لقد ضاعت هيبة جيشهم سابقا، وأظن أنهم لن يغامروا بمزيد من الضياع.