تشهد البيئة الفلسطينية، في الآونة الأخيرة، حملة دعائية (إسرائيلية) مكثفة، تستهدف تماسك الجبهة الداخلية، ومكامن صلابته الروحية، من خلال التأثير في منظومة إدراكه، وشبكة قناعاته الراسخة؛ على أمل تأسيس حالة نفسية، تستجيب لأطروحاتها، وترضخ لما يقدم لها من حلول. هذه المحاولات، دفعت العديد من النخب والمتابعين إلى دق جرس الإنذار، معبرةً عن مخاوف تجتاحها، خاصة في وقت تواجه فيه قضيتنا الفلسطينية موجة مؤامرات وأزمات، يكافح شعبنا في التصدي لها، سواء بطرق سلمية، أو عبر ابتكار أساليب غير تقليدية. ولأننا، مثل باقي أبناء شعبنا، نعي خطورة هذه الممارسات، فنحن حريصون على المساهمة في حالة التوعية بسبل (إسرائيل) الدعائية، وأساليبها واستراتيجياتها، لنستخلص نتائج تساعد على مواجهتها، أو على الأقل الحد من تأثيرها. والتطرق لكيفية مواجهة الدعاية (الإسرائيلية) مهمة ثقيلة، لا تكفيه قراءة هنا أو بحث هناك، لتشعبها الشديد، وتعدد الموضوعات المرتبطة بها؛ إلا أننا سنحاول التركيز على ما نعتبره ملحاً، عبر استعراض أخطرها، مع جلاء طرق تنفيذها، وكيفية تفنيدها.
استراتيجيات الدعاية الإسرائيلية
نعني باستراتيجيات الدعاية (الإسرائيلية)، تلك التي تنظم رؤية تنفيذ العمل النفسي، كي تخدم أهدافا سياسية مرحلية، تنتهي بتحقيق غايات استراتيجية. ومن أهمها "التفريق Divisive"، أو بمعنى آخر، زرع الشقاق بين مكونات الفئة المستهدفة، سواء في علاقاتها الداخلية، أو الخارجية. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا، أن هذه الاستراتيجية هي السبب الرئيس في تفوق (إسرائيل) علينا كفلسطينيين، وسبب جوهري في تغذية الخلاف مع كيانات عربية عديدة.
وبعيداً عن شرحها، لكونها مفهومة ضمناً، نجحت (إسرائيل) في ترجمة هذه الاستراتيجية إلى أساليب عمل، يتخذ معظمها اشكالاً اتصالية، مستفيدةً من حالة المصداقية التي تتمتع بها أذرعها الإعلامية. والحقيقة أن هذه المصداقية لم تأتِ من فراغ، فمعظم ما تنشره هذه الوسائل صحيح على المستوى الإخباري، ما راكم ثقة بالوسيلة وما تقدمه من معلومات بمرور الوقت. هذه الثقة، التي تدرك (إسرائيل) أهميتها، تحولت إلى منفذ للتأثير والتحكم بالمستوى الإدراكي للمتابع الفلسطيني. فعبر بث مواد إعلامية، تحمل معلومات منتقاة، تضمن جهات الدعاية (الإسرائيلية) انتقالها السريع إلى بيئتنا، من خلال متابعين أو مترجمين، لا يأخذون بالحسبان نتائجها على الإطار المرجعي للجمهور، وإمكانية تغذيتها لبعض جوانب الصورة الذهنية أو النمطية المتأصلة.
وكي نتوسع قليلاً في شرح تكنيكات التطبيق، لا بد من الإشارة إلى خاصية الإغراء التي تتسم بها بعض المواد أو التسريبات الإعلامية (الإسرائيلية) المتعلقة بنا. فالكثير منها يأخذ شكل دليل، يستجيب لمعتنقات محددة، تحفز رغبة بالنقل، لإشباع حاجة نفسية عند الناقل، تثبت صحة ما يحمله من أفكار أيديولوجية وثقافية تجاه قضايا أو شخصيات معينة. ولنأخذ الخلاف بين حركتي فتح وحماس كمثال للتفسير. فــ(إسرائيل) عندما تُصدر مادة إعلامية صحيحة معلوماتياً، تعلم مسبقاً أنها ستتعرض للترجمة والنقل، لتشق طريقها نحو المجتمع الإخباري الفلسطيني بكل أريحية. لهذا، عندما تقوم بنشر خبر يتناول تعزية الرئيس الفلسطيني بوفاة (شمعون بيريس)، فهي على يقين تام أن الخبر سيغزو صفحات حماس الإخبارية، كونه يخدم رؤية ترى في تصرفات محمود عباس خروجاً عن العرف أو الإجماع الوطني، والعكس صحيح. بهذه الطريقة الدعائية البسيطة، تتمكن إسرائيل من تعميق الهوة بين الطرفين على جميع المستويات، لتصبح إمكانية التلاقي تحت مظلة واحدة أمراً مستبعداً، لتحقق هدفا سياسيا مرحليا، يتمثل في تعميق حالة الخلاف القائم، بما يخدم غايات إستراتيجية، كالاستيلاء على ما تبقى من الضفة الغربية، واخراج قطاع غزة من المعادلة الفلسطينية، وبالتالي أفول القضية برمتها. فالتفريق هنا يقوم على تحليل الواقع، وقراءة اساليب ممارساتنا الإعلامية، ثم استغلالها لابتكار تكتيكات اتصالية تخدم الإستراتيجية الدعائية.
وإذا كان التفريق، يخدم تطلعات ضرب الوفاق الفلسطيني الداخلي، فإن استراتيجية "الربط Transfer" تخدم هدف بعثرة أوراق القوة والدعم على المستوى الخارجي. وبذات الطريقة القائمة على تحليل طبيعة التفاعلات السياسية الإقليمية والدولية، وإمكانية الإفادة منها لتحقيق أهداف سياسية، تجتهد إسرائيل في ربط جماعة أو فكرة فلسطينية معينة، بأشخاص أو جماعات أو دول أو حتى أفكار محددة، بهدف خلق حالة من النفور تجاهها، ومن ثم الصعود بها إلى عداء مزمن. ولنأخذ إيران، كمثال؛ فعبر رصد حالة العداء القائم بينها وبعض الدول العربية كالسعودية والإمارات وغيرها، تعمد إسرائيل إلى ربط حماس بها، مستغلةً العلاقة القائمة بينهما. هذه الإستراتيجية تؤدي إلى نفور الدول من حماس، لتتحول لاحقاً إلى مخاصمة ترقى لمستوى قطيعة. فعبر استغلال حالة الكراهية، توجه إسرائيل هذا الشعور نحو حماس، سواء عبر نشر مواد إعلامية معدة بعناية، أو استغلال ما يصدر عن وسائل إعلامية فلسطينية، التي تخدم دون وعي كافٍ وجهة الدعاية الإسرائيلية.
ولا تقف استراتيجية الربط عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل مفاهيم الإرهاب، والعنف، وغيرها من الأفكار التي يرفضها العقل الغربي. وهنا نؤكد أن العديد من المواد الإعلامية الصادرة عنا كفلسطينيين تغذي عن سوء قصد استراتيجية الربط الدعائي، فاستحضار شعار النازية مع فعالية سلمية، سيُستغل لربطنا بأيديولوجيات مرفوضة تماماً، كما أن توظيف أدوات عنيفة سيؤثر على الظهور العام لنضالنا، ويسمح بالربط مع ظواهر عالمية، كالقاعدة، ما يضرب في مقتل أي خطاب إقناعي نوجهه للغرب.
وعلى التوازي، تحرص (إسرائيل) على الظهور عالمياً بمظهر الضحية، عبر إستراتيجية يطلق عليها اسم تقمص دور الضحية Self-Victimization؛ التي تعني الظهور كمفعول به، لا كفاعل، كي تكسب تعاطف الآخرين، وبالتالي تحصيل تأييد ودعم لإجراءاتها على الارض. وهنا تحاول (إسرائيل) إقناع العالم بأنها ضحية جرائم، ومؤامرات، وحملات تشهير، وافتراءات... إلخ، يرتكبها أو يسوقها الغير بحقها. و نلاحظ هنا، توظيفها للإستراتيجية خلال عملياتها العسكرية، حيث تعمد إلى إطلاق تسميات تعبر عن بعد دفاعي غير هجومي، مثل "الحافة الوقائية".
وتقمص دور الضحية بشكل دائم، يتطلب تكنيكات دعائية متعددة ومتجددة سواء على صعيد الممارسة الإعلامية، أو على صعيد لغة الخطاب السياسي والأمني والاجتماعي، مثل مناشدة الشفقة التي تحاول (إسرائيل) من خلالها شحن الجوانب العاطفية للجمهور، أو انتهاج الأنسنة، من خلال إلصاق صفة الإنسانية بنفسها، ومحاولة تجميل كل ما هو قبيح في أعين الجمهور. ولعل التقارير الإعلامية التي تبثها، حول مساهمتها الإنسانية في الأزمة السورية مثال واضح على كيفية صياغة قصة بقالب إنساني جذاب، يهدف إلى صناعة صورة نمطية لدى الجمهور، تساعدها في تحسين ظهورها العام، وبالتالي تقبل المواطن العربي لوجودها.
يتبع