كان الفلسطينيون يترقبون هذه اللحظة ويتوقعونها، وكانوا يراهنون عليها وعلى يقينٍ من قدومها، ويعرفون أنها مهما تأخرت فستأتي، ومهما تعرقلت فستذلل من أمامها العقبات، وستزول من طريقها الصعاب، وحينها سينتصر المدافعون عن الظلم، وسيسكت المراهنون على العدل، وسيخيب فألُ المستبشرين بالقضاء، ولكن الفلسطينيين كانوا يقظين ولم يخدعوا؛ فتجاربهم كثيرة، وخبرتهم كبيرة، ومعرفتهم بعدوهم عميقة، وثقتهم أن عدالته معدومة، واعتقادهم أن نزاهة قضائه غير موجودة، وشواهدهم على أحكامه الظالمة عديدة.
لم يكن قرار المحكمة الإسرائيلية مفاجئًا قط، كما لم يكن صادمًا أو غريبًا، بل كان طبيعيًّا وعاديًا ومتوقعًا، إذ ما تسرب الوهم إلى نفوس الفلسطينيين يومًا، ولا اهتزت صورة العدو في عيونهم أبدًا، وما ظنوا أنه سينتقم لهم أو سيغضب من أجلهم، فهم أدرى الناس بعدوهم وأخبرهم به، وقد كانوا يدركون أن قرار الإفراج عن قاتل أبنائهم وحارق أسرهم وبيوتهم قادمٌ لا محالة، رغم مسرحية المحكمة ومهزلة القضاء المعلن.
تبرير المحكمة الصهيونية كان واهيًا ضعيفًا، لا ينطلي على أحد، ولا يقبله عاقل، وإنما يصدقه الجهلة، ويرضى به الظالمون، ويروج له المعتدون، ويعتد به الواهمون، فقد كانت حجة القضاء العنصري المسيس الذي برأ القاتل وأفرج عنه أن اعترافاته نزعت منه بالقوة، وأنه أخضع للتعذيب النفسي والجسدي، وظروفٍ قاهرةٍ، الأمر الذي يبطل اعترافاته الأولى ويجعلها بحكم العدم، وأكدت المحكمة في معرض بيانها لقرار التبرئة خلال ردها للتهم الموجهة إليه أنه لا أدلة تدينه، ولا شهود عليه، والشواهد والقرائن التي سيقت لإدانته إنما هي معنوية عامة، وليست مادية محسوسة، ولا ترقى إلى أن تتحول إلى أفعالٍ وأعمالٍ.
هؤلاء هم الإسرائيليون الصهاينة يا من لا يعرفهم، ومن كان يراهن عليهم ويعتقد أنهم يعدلون ولا يظلمون، ويساوون وينصفون، ولو على أنفسهم، وأنهم ديمقراطيون حضاريون، إنسانيون متمدنون، ها هم يفرجون عن مجرمٍ قاتلٍ، شهد العالم كله على جريمته النكراء، ووقف على وحشيته القضاء والإعلام ومؤسسات حقوق الإنسان، فقد حرق بيتًا آمنًا بليلٍ، وأضرم النار على من فيه وحرقهم أحياء، فقتل أبًا وأمًا وطفلًا رضيعًا، وتسبب لآخر بحروقٍ بالغة ما زالت شاهدة على جريمته، وتنطق بعدوانيته، وتشير إليه بالاتهام الصريح، وتدمغه بالجريمة الكاملة.
مع ذلك ترى محكمةٌ صهيونية وجوب إلغاء العقوبة التي فرضت عليه، والإفراج عنه من محبسه، والاكتفاء بفرض إقامةٍ جبرية عليه في حيه ومنطقة سكنه، بحجة أن الأدلة غير كافية، وأن الاعترافات التي أدلى بها نزعت منه بالقوة، وأنه كان قاصرًا عندما اتهم بالاعتداء، ونسي قضاة العدل أن المستوطنين الإسرائيليين فرحوا بجريمة القاتل واحتفوا به، ونظموا احتفالاتٍ كثيرة للإشادة به، وأعادوا تمثيل جريمته، وسجلت عدسات الإعلام فرحتهم على وقع صيحاتٍ عنصريةٍ بقتل العرب وذبح أطفالهم وحرق بيوتهم.
المستوطنون فرحون للمرة الثانية، فقد فرحوا ورقصوا وابتهجوا عندما أقدم المجرم على فعلته، وها هم اليوم يرقصون على وقع الإفراج عنه، ويشمتون بالفلسطينيين الذين راهنوا على القضاء الإسرائيلي، إذ جابت مجموعاتٌ من غلاة المستوطنين المتطرفين قرى محافظة نابلس، وكتبت على جدران بيوتها عباراتٍ مستفزة، وتهديداتٍ قذرة، وأخرى تشي بالعنصرية المقيتة، وتحمل الشماتة والتهكم بالسكان الفلسطينيين، وخلال التعبير عن فرحهم حرقوا سيارات بعض المواطنين.
إنها الصورة الحقيقية للكيان الصهيوني الغاصب المحتل، القاتل المعتدي، الظالم الباغي، المستبد المتغطرس، هي الصورة السوداء القاتمة، المناقضة للقيم والمخالفة للمُثُل، البعيدة عن العدل والمجافية للحق، الصورة الحقيقية التي لا تصلح معها محاولات التزيين والتجميل، ولا مساعي التحسين والتعديل، مهما بلغت جودة المساحيق وبراعة المزينين، فحقيقتهم واضحة جلية، وطبيعتهم مكشوفة معروفة، وتاريخهم حافل، وسجلهم بالظلم عامر، وغير ذلك زيفٌ لا نصدقه، وباطلٌ لا نؤمن به، بل لا نريده ولا نقبله، إذ من الخطأ الإيمان بأن للعدو عدالة، أو الاعتقاد بأن لديه نزاهة، أو الإيمان بأنه ينصف المظلومين، ويأخذ القصاص من مستوطنيه الظالمين، فهذا الاعتقاد وهمٌ وسرابٌ وخيالٌ وأحلامٌ، يخل بالقاعدة، ويضرب أساس الوعي عندنا، ويناقض الموروث لدينا.
انتصر الإسرائيليون لنا، وانحازوا إلينا، وأيدوا وجهة نظرنا، وأثبتوا أن نظريتنا فيهم صحيحة، وأن تقديرنا لهم ليس خطأ، وأننا لا نظلمهم ولا نفتري عليهم، ولا نتهمهم ولا نبهتهم، ولا ندعي عليهم ما ليس فيهم ولا منهم، فشكرًا للقضاء الصهيوني الذي يدعي النزاهة والإنصاف، والشفافية والعدل، وأنه لا يتردد في الحكم على رؤساء الكيان أو رؤساء حكومته وغيرهم من قادته ورموزه، أنه لم يخيب نظرتنا فيه، ولم يبطل حكمنا عليه، فها هو يؤكد للجميع ازدواجية المعايير لديه، وتعدد القوانين عنده، واختلاف الحق في ميزانه.
لعل العالم الحر ودول أوروبا يدركون حقيقة هذا الكيان الذي يمارس الإرهاب بنفسه، ويدعو مستوطنيه إلى ممارسته، ويعلن مقدمًاتفهمه الأسباب التي تدفعهم إليه، وعزمه على العفو عنهم وعدم إدانتهم، ولعل فضيحة قاتل عائلة الدوابشة ليست هي الشاهد الوحيد على قيام كيانهم على الباطل، وانحياز قضائهم إلى الظلم، فقاتل الشريف قد عفي عنه وبُرئ من جريمته، وبرؤوا المتهمين بحرق الطفل محمد أبو خضير، واعتذروا إلى الحاخام ليفنغر وأبدوا أسفهم له لأنهم أساؤوا إليه وسمحوا بتشويه سمعته، ومن قبل أطلقوا سراح المجرم الذي فجر سيارات رؤساء البلديات العربية، وتجاوزوا له عن جريمته، وغير ذلك كثير مما يثبت لنا ولهم ولغيرهم أننا لا نظلمهم ولا نفتري عليهم، إذ هم الذين يرسمون صورتهم، وهم الذين يفرضون علينا رؤيتنا فيهم.