تمر لحظات في غمرة انشغالك بمهام الحياة العملية والأُسرية ومعارك إثبات الذات والمحاربة لكسب الجولات كاملة في خِضمّ المباريات الحياتية تُشير إليك بوجوب تلقي قسط من الراحة كاستراحةِ مقاتل لتجميع القوى والانطلاق بقوة ونفس أقوى وأكبر.
يبقى التسويف حاضرًا بين الفنيةِ والأخرى، ولسان حالك يقول: "سآخذ قسطًا من الراحة غدًا، لا بل بعد غد، نتركها للأسبوع المقبل، ربما في فترة قادمة سيكون أفضل"، كل هذا التأجيل دون إعارةِ أدنى اهتمام للمؤشرات الحمراء التي تومض لكِ من وقتٍ لآخر.
يبدو الأمر مُتجاهَلًا بالنسبةِ إليك وأنت لا تعرف أن إخفاقك في تلك الجزئية من العمل أو غضبك المُفرط في لحظةٍ لا تستدعي كُل ذلك وربما لامبالاتك الزائدة إزاء جُلِّ الأمور العابرة والعارضة، إن كل تلك التصرفات هي ترجمة عملية لتكديس الضغوط على كاهلك.
ربما من الفكاهة أن أصف لك أنك ستبدو كريبوت آلي بعد قليل أو شخص يكرر نفسه إذا استمررت على هذا النحو من عدم إعطاء ذاتك حقها الوافي في التجدد والتطور والارتقاء للأفضل دومًا، ليس المشكلة في كونك تعمل بشكلٍ يومي أو بساعاتٍ طويلة إنما الخطأ الأكبر يكمن في استهلاكك لذاتك، لمهاراتك ولمفردات حياتك.
هناك العديد من الطرق والآليات العملية التي يقدمها خبراء التنمية البشرية لإنقاذ ما أمكن إنقاذه من بقايا روحك المتهالكة إذا ما مررت بواقعة مشابهة ولكن يجب عليك الاقتناع بدايةً بخطورة الأمر، في الحقيقة وهنا يمكنني أن أنقل إليكم تجربة شخصية بسيطة في هذا الإطار إن كان لا بد من ذلك.
منذ فترة وأنا أحقق إنجازات جميلة وأتخذ قرارات مهمة وأمضي إليها بكل قناعة وإدراك تام بنتائج التخلي عن بعض المسؤوليات وتحمل أخرى وكل ما يمكنني أن أتلقاه كمكسب أو خسارة لأمضي صوب هدفي وحلمي الأجمل، بينما وميض أحمر كان يبرق لي من بعيد وأنا أتجاهله لإثبات قوتي الظاهرية ليس أكثر.
وقد يكون الاستسلام لمشاعرك في لحظات إلحاحها عليك هو الأفضل بدلًا من تجاهلها وتكديس الطاقات السلبية على رفوف قلبك البالية؛ فقد مرت ذكرى ميلاد أمي الجميلة، وربما لم يكن الأمر أسطوريًا أو خارقًا للعادة في ظل وجودها بحياتنا قبل ذلك، ولكنه بدا كسُمٍ قاتل منذ أن رحلت، تجاهلت الذكرى وحاولت أن أبدو أقل من عادية حينها، رغم أن ضوءًا أحمر قويًا ومض لي، وبدأت تتوالى الومضات بعدها بشكلٍ أقرب وأقوى وأسرع وكلما توالت كلما ازداد تجاهلي للأمر.
ليس طيف أمي أو ذكرياتي معها بالشيء الهين إذا ما اجتاحتني فجأة, لكني لم أفهم مدى استهتاري لتلك الإشارات البراقة وقتها، حتى وجدت نفسي بلا أي مُقاومةٍ مني أرتطم بأدنى سببٍ لأقع في فكِ اجتياح من الحنين ليس له أول من آخر, ما اضطرني لعمل إيقاف مفاجئ لكافة أعمالي ومهامي والدخول في نوبات إعياء وبكاء واستسلام قهري امتد لساعاتٍ طويلة وأيام.
ربما يتساءل القارئ ما علاقة الحادثة بضرورة استجابة المرء فينا لنداء الاستراحة الذي يساعده ليستجمع قواه ويجدد طاقاته، لكن الأمر متماثل تمامًا، فربما لو استجبتُ لأول وميض أحمر هاجمني وحاولت تهدئة أشواقي للحبيبة الغائبة باستسلام يتناسب مع حجم الوميض الأول لما توصلت لمرحلة الانهيار المفاجئ تلك.
الطاقات السلبية التي تهاجمنا نتيجة تكرارنا لذاتنا المفرط أو لرضوخنا لظروف الحياة مُدّعين أنها هي التي تصنعنا رغم أن العكس هو الصحيح، هذه الطاقات هي التي تهدم ما نعمل لسنين على بنائه وتشييده وتجميله فينا, والأمر لا يعود إلا لسببين اثنين إما الرضا بحالنا دون السعي لتطويره أو السرعة الكبيرة في التهام كل شيء بلا توقف.
وهي على نفس القدر من الأهمية للطاقات الإيجابية التي تزودك بها قراراتك الصائبة ونجاحاتك المرموقة وعليك أن تعيرها ذات الأهمية وما أجمل التأني مع حث الخُطى شيئًا فشيئًا بتخطيط وإدراك كامل، والوعي الكامل بكل الإشارات التي نرسمها بأيدينا أو تهاجمنا بلا رغبةٍ منّا، تمامًا كرسائل القدر التي تعمل كبوصلة لك في صحراء دنياك.
إن دعتك روحك للبكاء فلتتوقف لحظة ولتبكِ بدلًا من أن توقفك هي لأيام رغمًا عنك أو تحولك لرجلٍ قاسٍ لا تنبض أوتاره وأيضًا رغمًا عنك، وإن دعتك لأخذِ قليل من الراحة فلتستجِب بدلًا من وقوفك يومًا في المرآةِ فترى فيك شخصًا آخر لا يشبهك في شيء قط، وإن دعتك لتغيير الطريق فلتغيره عِوضًا عن فشلٍ ذريع قد يصيبك في لحظةٍ لن تتمكن من مقاومته فيها.