كان ضياع فلسطين كارثة بكل المقاييس، وكانت مصيبة حلت على الأمة العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يعاني إلى اليوم، انها النكسة.. التي تزامن ذكراها هذا العام مع هذا الحدث العظيم وهو مسيرات العودة الكبرى والتي تثبت للعالم أجمع بأن شعب فلسطين لا ولن ينسى ولم ولن يتنازل عن حقه مهما طال الزمن او قصر لأن الحقوق لا تسقط بالتقادم ولا يضيع حق وراءه مطالب.
فقبل واحد وخمسين عاماً أقلعت طائرات إسرائيلية من قاعدة القوات الجوية الإسرائيلية، لتُباغت الطائرات المصرية التي لا تزال رابضة في مطاراتها؛ نفذ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أشهر الخطط التي كان يتدرّب عليها منذ سنوات، والتي كانت تهدف إلى ضرب جميع القواعد الجوية المصرية في آن واحد.
انتهت حرب يونيو/حزيران 1967 بهزيمة عسكرية لجيوش ثلاث دول هي مصر والأردن وسوريا، كما تركت بصمات ديمغرافية وجيوسياسية ما زالت ماثلة للعيان إلى يومنا هذا، وكان من نتائجها خسائر بشرية ومادية كبيرة، واحتلال أجزاء واسعة من الأراضي العربية، وتدمير أغلبية العتاد العسكري العربي. فعلى الرغم من شن مصر وسوريا حربا عام 1973 والتي أدت إلى استعادة شبه جزيرة سيناء وقسم بسيط من هضبة الجولان، فإن قطاع غزة والضفة الغربية وباقي الجولان إضافة إلى شرقي القدس بقيت تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لا شك ان ذكرى النكسة لهو اشد وقعا على نفوس الفلسطينيين بعد ان تبددت كل الآمال والأحلام بالعودة والتحرير، لكن ربما الجديد في هذه الذكرى هذا العام وهي الذكرى الحادية والخمسين للنكسة انها تحل على الشعب الفلسطيني وهو في شكل جديد من اشكال المقاومة، شكل لم يكن يتوقعه منه أحد، بعدما ظن الجميع بأن سقف المطالب لهذا الشعب المحتل المغلوب على أمره المحاصر في شريط ضيق عبارة عن سجن كبير، بأن أقصى ما يطلب هو فتح معبر أو كهرباء لتتحول وتتعاظم تلك المطالب إلى العودة لأرض الآباء والاجداد والتي ظن المحتل أنه قد نجح في قاعدته التي وضعها منذ جثومه على أرضنا وملخصها "الكبار يموتون والصغار ينسون".
اجل إن أسوأ ما قد يسمعه المحتل هو المطالبة بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، على اعتبار أن هذه المطالبة تستهدف وجود الكيان الاسرائيلي نفسه؛ فالاحتلال يرى أن تنفيذ حق العودة يقلب المعادلة السكانية تماما ويحول الكيان إلى دولة فلسطينية، ويعرض أمن اليهود للخطر مما يضطرهم للرحيل عن فلسطين، لذا إنهم ينظرون -بخطورة بالغة- إلى هذه المطالبة، ويعملون دائما على تجنب طرحها على المستويات العالمية والمحلية. ولهذا انهمك الاحتلال -ومن يؤيده على الساحة الدولة- في مشروع حل الدولتين الذي يغيب الوعي ويقضي على حق العودة. وهم يرون أن مجرد الاعتراف بالاحتلال يكفي لجعل حق العودة ضربا من ضروب العبث.
المؤسف أن غزة وحدها هي التي حملت النشاط على عاتقها، ولم نجد تضامنا فعالا من المخيمات الفلسطينية وعموم الفلسطينيين بعد أن اقترف الاحتلال مجزرته. وارتقى عدد من الشهداء، وسقط مئات الجرحى، ولم نجد إلا هرولة إلى الأمم المتحدة التي لا تملك أدوات تنفيذية خارج الإرادة الأميركية، فلا يكفي اضراب هنا وحداد هناك.
الاحتلال لا يهتم كثيرا بالشجب والاستنكار ولو أتت من أعلى مؤسسة دولية، وكل ما يقلقه منذ النكسة هو مسيرات العودة -فكما سبق وقلت- ان الاحتلال يكره سماع حق العودة لأنه قضية لا يمكن أن يخسرها الفلسطينيون، وهي كفيلة بمحاصرته دوليا ونبذه اقليميا ومن يؤيدون أصحابه في غطرستهم واستمرار عدوانهم. حق عودة اللاجئين قضية رابحة على الأقل دبلوماسيا لأن كل الشرائع الدولية والاتفاقيات والمواثيق تقول بحق اللاجئ في العودة إلى بيته وممتلكاته، وعلى الدول أن تتبنى كل التسهيلات التي تعجّل عودة اللاجئين.
لا يسعني في هذا المقال الا ان اقول ان غزة استطاعت قلب المعادلة من نكسة الى نصرة، فمن رحم النكسة ولد حق العودة، ولو ان هناك من بقى يجادل بعبثية النشاط، ويقول إن أضرارا كبيرة ستلحق بالشعب الفلسطيني دون جدوى، والدليل على ذلك ارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى لتعود الأمور إلى ما كانت عليه. إن وقوع الخسائر في الجانب الفلسطيني لا مفر منه، وإذا كان الشعب لا يرغب في تقديم التضحيات فإنه لن يحرر وطنه ولن يحقق حريته.