فلسطين أون لاين

​وأوقعت سماح أخاها في قبضتهم

...
صورة تعبيرية
بقلم / د. زهرة خدرج

كانت تشعر بعزلة عن العالم.. عن الناس.. وكأنها تعيش في كوكب آخر لم يلحق بركب الزمن.. كانت تسمع زميلاتها في المدرسة يتحدثن كثيرًا عن وسائل التواصل الاجتماعي التي لا حصر لها والتي ملأت الدنيا، وسيطرت على اهتمامات الناس ومفاهيمهم.. فهنا فيس بوك، وهنا انستغرام، وهناك توتير، وها هنا سناب شات... إلخ.. فكل يوم يظهر برنامج جديد وتطبيق يتيح للناس التواصل من خلاله.

كانت تسمع وترى ذلك وتقف واجمة حالمة متى يُسمح لها بالغوص في هذا البحر العميق الرائع المليء بالدرر من شكل ولون ونوع؟ لا تدري تحديدًا لماذا يمنعها والدها من إنشاء حسابات خاصة بها، تخصها وحدها؟ لماذا يفرض عليها أن تستعمل حسابات والدتها وحساباته لتدخل لتلك البرامج؟ وأسخف ما في الأمر من وجهة نظرها أنه يقول لها دائمًا: ادخلي وشاركي كما تشائين.. خذي راحتك.

ماذا يقصد؟ كيف لها أن تشارك من حساب لا يخصها.. حساب لا يحفظ لها خصوصيتها؟ ويسمح لوالديها بالاطلاع على نشاطاتها؟ ناقشت والدتها ذات مرة في هذا الأمر، فأجابتها: وهل تعتقدين بأن هناك خصوصية على تلك البرامج والتطبيقات؟ وهل تعتقدين بأن ما تنشرينه على أحدها حتى وإن كان بأسماء وهمية يُحفظ لك وحدك ولا أحد يتمكن من العبث به؟ ألا تعلمين بأنه من السهل التعرف على من يدير الحساب، وحتى من أين تتم إدارته في ظل التطور الذكي الذي نعيشه الآن. لم تقتنع بكلام والدتها، وظنت بأنها تحاول إخافتها.

وعند تفوقها في نهاية العام الدراسي طلبت أن تكون مكافأتها جهاز آي باد.. وكان شرط والدها: "سماح.. لا برامج تواصل اجتماعي على الآي باد إلا بإذني".. حاضر يا أبي.. كما تشاء.

وانطلقت في أيامه الأولى بين يديها تفتح حسابات في كل برنامج تسمع عنه دون أن تحفظ كلمات الدخول على ذاكرة الجهاز.. ففي فيس بوك كانت: الباحثة عن الجمال، وعلى تويتر كانت: الأميرة العذبة، وعلى سناب شات كانت: صدقٌ في زمن ضائع.. وهكذا, وبعد أن تنتهي من كل برنامج كانت تمسح كل أثر قد يكون شاهدًا على جريمة تبذل جهدها لإخفاء معالمها.

هامت حبًا بهذا العالم الافتراضي الذي يحاول والداها حجبها عنه.. فهو العالم المثالي الذي كانت تبحث عنه.. جميع الناس فيه شجعان، وأصحاب مبادئ، وصادقون، ومخلصون، وأصحاب أخلاق عالية وناجحون و... يا إلهي.. لماذا يمنعني والدي عن الغوص فيه والتمتع بهذه المثالية؟ لماذا يريد أن يحرمني من هذا العالم الرائع؟ وأبدًا لم تجد إجابة مقنعة على سؤالها.

وبما أنها فتاة رُبيت على الالتزام الديني، لم تقبل صداقات الذكور، فذلك ليس من شيمها.. ولكنها تتفاعل مع منشورات البعض منهم في المجموعات الكثيرة التي انضمت إليها.. والتي أخذت تعلق فيها وتدلي برأيها دون تردد أو مواربة.. فهي كبيرة ومثقفة، فلماذا لا تعبر عن نفسها بصراحة؟ ربطتها على فيس بوك صداقة وهمية بفتاة سمت نفسها: "راجية رضا الله".. أعجبت بها واطمأنت لها، ووجدت الكثير من الأفكار والآراء التي تجمعهما، أخذت تحادثها بشكل يومي، وتستأنس برأيها، وتخبرها بما يزعجها، وما يدور في نفسها.. ووصل بها الحال أن تطلعها على خصوصيات بيتها وما يدور داخله من خلافات وأحداث.. وكانت "راجية رضا الله" لا تبخل عليها بالنصيحة والتوجيه والإرشاد.. ما زاد من إعجاب "الباحثة عن الجمال" بها، وزاد من تعلقها وثقتها بها.

أمام العائلة تظهر سماح البراءة التامة، فتتظاهر بأنها تلعب أو تقرأ الكتب التي تحَمِّلها عن الإنترنت، وعندما تكون وحدها تختلف اهتماماتها.. ولم تكن سماح الابنة الأولى لتلك العائلة، فقد سبقها اثنان من الإخوة الذكور، ماجد طالب في كلية الهندسة وناشط سياسي، ومنتصر طالب في الثانوية العامة.. عارض ماجد بشدة اقتناء سماح للآي باد، لأنها صغيرة ويخاف من دخولها للإنترنت.. وكثيرًا ما يؤنب والدته على ترك الآي باد بين يديها طوال الوقت.. ويطلب منها أن تمارس بعض الرقابة عليها؛ فتغضب سماح عندما تسمعه وتطلب منه عدم التدخل في شؤونها.. وعندما كانت تخلو مع الجهاز، تفضفض عن نفسها مع "راجية رضا الله" وتخبرها بكلام ماجد وتحدثها عنه وعن عناده ورأيه المتصلب في كل شيء.. وأخبرتها أنه حتى المخابرات الإسرائيلية لم تستطع كسر عناده ودفعه للاعتراف بما لديه من معلومات على الرغم من كثرة الضغط النفسي والعزل الانفرادي والتعذيب، الذي تعرض له من قبلهم.. وأخذت "راجية رضا الله" تسألها عن سبب اعتقاله، فأدلت لها بجميع التفاصيل، وأخبرتها بأن ماجد ناشط سياسي.. وأطلعتها على غيرها من المعلومات الحساسة.

نصحتها "راجية رضا الله" ألا تغضب أخاها أو والديها، وأن تنتبه لدروسها وتحاول جاهدة ألا تفتح الآي باد أمامها، حتى يخف الحصار الذي يفرضونه عليها.

استمرت علاقة سماح بصديقتها الوهمية ما يزيد على عامين ونصف.. اعتقل خلالها ماجد، وفُتح ملف القضية القديمة التي أطلق سراحه لعدم توفر الأدلة فيها.. كُشف عن معلومات لطالما عُذب لأجل الإدلاء بها؛ كان المحقق يعلم أدق التفاصيل عن حياته اليومية، فمتى ينام ومتى يستيقظ وماذا يحب من الطعام، ومتى يعود للبيت كل ليلة، ومن هم أصدقاؤه، وكيف يجري تجاربه على المواد الكيميائية التي يحصل عليها سرًا... وغيرها.

لم تصدق سماح أن تكون هذه الصديقة التي اختفت من حياتها فجأة بعد أن وثقت بها هي رجل مخابرات يحاورها ويسدي النصح لها، وتُسِرّ له بمكنون نفسها وبيتها.. أخذت تبكي ندمًا بعد أن حُكم على أخيها ماجد بخمسة عشر عامًا من السجن.. وبكى والداها أيضًا لمنعهما إياها من برامج التواصل وترك الآي باد معها في نفس الوقت دون توعية كافية بما قد تتعرض له من تجارب وأشخاص وطرق خداع على فيس بوك وغيره.