لقد كشفت مسيرات العودة عن خوف سلطات الاحتلال من استمرار هذا النموذج التظاهري السلمي المنتشر على طول وعرض السلك الشائك لقطاع غزة ولا تزال خيام العودة منصوبة لاستقبال المتظاهرين الذين يأتون من كل فج عميق متحدّين القناصة والزنانة، بل ونبشت المسيرات كذلك عناصر الالتباس للمستوطنين بغلاف قطاع غزة في تساؤلهم الوجودي الدائم، فهل "بقوّة السيف سنحيا؟ وإلى متى سيحمينا رصاص بنادقنا من هذه الجموع العطشى للحرية والوطن؟ فحسب ما كان ينشر من تحليلات إسرائيلية، في صلبها تقديرات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أن جولة المقاومة الشعبية التي شهدناها منذ نهاية مارس/آذار، لها جدول زمني، ولهذا هي ليست الانفجار الشعبي المتواصل. ولكن بالنسبة للاحتلال، فإن هذا مؤشر كبير للمستقبل، الذي بات منظورًا بالنسبة لهم، وهو أن الإرادة الشعبية الفلسطينية تتعاظم من حين إلى آخر، وأن الانفجار الكبير قادم لا محالة.
إن ما يقلق سلطات الاحتلال هو أن مسيرات العودة، بعناوينها وزخمها الشعبي الواسع، أعادت إلى جدول أعمال الحلبة الدولية، مسألة اللاجئين الفلسطينيين المهجرين من وطنهم، وفي طنهم، رغم مساعي الاحتلال، بالذات في السنوات العشر الأخيرة، لشطب هذا الملف كليًّا من الأجندة العالمية، من خلال ضرب "وكالة غوث اللاجئين-الأونروا". وهذا الحراك تعاظم مع دخول دونالد ترامب وفريقه إلى البيت الأبيض، وبات أكثر عدوانية.
فسلطات الاحتلال لن تعيد حساباتها ولن تتعظ رغم فداحة الخسائر البشرية في الجانب الفلسطيني الضحية، وهي ستحاول أن تتعلم من تجربتها وتتجنب، في المرات القادمة، ما تعرفه في قواميس قمعها كخسارتها أو كما جاء على لسان الناطق باسم جيش احتلالها، الضابط يوناتان كونريكس.
فأمام جمهور أمريكي يهودي اعترف هذا الضابط قبل أيام "بأنهم لم ينجحوا في تقليص عدد القتلى والإصابات"، وأضاف بأن "عدد المصابين (الفلسطينيين) قد أضرّ بنا كثيرًا، وأن إعلام الطرف الفلسطيني قد غلبنا بالضربة القاضية؛ بينما فشلنا نحن بتمرير رسائلنا ومواقفنا بخصوص ما كنا ندافع عنه هناك"، ولو أن أبواق الاحتلال تلاعبت كثيرا بقضية الخلافات الفلسطينية الداخلية، بزعم أن ما يجري يدخل في إطار التنافس بين القطاع والضفة، لكنها باءت بالفشل.
الضابط لم يفرق بين الضحية والجلاد، على العكس من ذلك تماما، بل لم يزعجه عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين ولا قوة ردة فعل جيشه والاعتداء على جموع مدنية، بل كان همه أنهم فشلوا بتبرير ردة فعلهم الدموية وسقوط تلك الأعداد الكبيرة من الشهداء والجرحى، وهذا ليس جديدا، فلم نتوقع من سلطات الاحتلال أن تتصرف بوحشية أقل مما تصرفت به، بل خشينا من ردة فعلها الدموية وتصوّرنا كيف سيقوم قادتها بتصنيع مشاعر الخوف من الزحف الفلسطيني باتجاه حدودها وتوظيف ذلك شعبيًا من أجل تجنيد أغلبية سكانية وراء سياساتهم.
فرغم أن الشعب الفلسطيني هو الضحية فقد أثبت على مر عشرات السنين، أن الاحتلال، مهما تعاظمت قوته العسكرية، يبقى أضعف أمام المقاومة الشعبية العزلاء. وهذا ليس لأن جيش الاحتلال وآمريه هم في غاية من الإنسانية في مواجهة المقاومة العزلاء، وإنما لأن سلطات الاحتلال تتخوف من أنّ استخدام القوة العسكرية المفرطة أمام متظاهرين عُزّل، سيضعها أمام ورطات على الساحة الدولية.
صحيح أن هذه الجولة لن تحقق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، لكنها استعادت، في زمن الخذلان العربي وبعد حقبة من الجفاف والتراجع الفلسطينيين، بعضًا من مكانة القضية الفلسطينية ودفعت بها مجدّدًا إلى صدارة الأحداث في العالم كلّه؛ والأهمّ أنها أنجزت ذلك على هدير موج كاسح ونداء "العودة"، في وقت اعتقدت فيه سلطات الاحتلال وحلفاؤها أنهم استطاعوا محو هذا الإيمان بالحق وإقناع هذا الحلم من صدور الأجيال الفلسطينية التي لم تعِش ذلّ أهلها ولم تذُق علقمهم كما ذاقوه في عام النكبة.
يكفي أهل غزة شرفًا أنهم يفدون القدس بأرواحهم ودمائهم، بأنهم انتفضوا من بين ركام أراده بعضٌ أن يتحوَّل إلى شواهد لقبور أحياء يعيشون كموتى؛ ويكفيهم أنهم انتصبوا "كالصبّار" في وجه عالم، راهَن حكامُه على تركيعهم بواسطة التجويع والخنق والحصار.