في ظل الحديث عن تكثيف الجهود التي تبذلها دول عربية وأوروبية بدعم أمريكي للتوصل إلى هدنة بين حماس و(إسرائيل) تهدف لإنهاء فعاليات مسيرة العودة و تخفيف الحصار عن غزة, تُطرح العديد من الأسئلة حول جدية (إسرائيل) وعن الأسباب التي قد تدفع أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفًا للقبول بهذه الهدنة والتراجع عن بعض شروطها السابقة. وهو ما يدلل على اعتراف ضمني بفشل محاولاتها لاحتواء مسيرة العودة وإخضاع المقاومة في غزة سواء بالقوة العسكرية أو حصارها لسنين, أم أن الحديث لا يعدو عن كونه فقاعات إعلامية تطلقها لتضليل الرأي العام المحلي والدولي وخداعه؛ على أي حال فإن هناك الكثير من الأسباب التي تعزز إمكانية التوصل لهدنة أو لِنقل تفاهمات مرحلية.
أولًا– رغبة (إسرائيل) التفرغ لإيران واستغلال رئاسة ترامب لشل قدرتها على صناعة قنبلة نووية في أي مرحلة من المراحل إذ إنها تعتبرها التهديد الوجودي الوحيد على كيانها لما تمتلكه من قوة عسكرية متطورة وقدرة مستقبلية على امتلاك سلاح نووي سيفقدها تفوقها العسكري أمام خصومها, والأهم من ذلك هو إصرارها على منع إيران من ترسيخ وجودها في سوريا وتشكيل جبهة ثانية إضافة إلى الجبهة اللبنانية, مما يتطلب نشر المزيد من القوات على حدود كانت آمنة على مدار عقود من الزمن.
ثانيًا- ضمان الهدوء على حدودها مع غزة في حال اشتعال الجبهة الشمالية لا سيما وأن احتمالات اندلاعها قد تزايدت في الآونة الأخيرة بسبب إصرار (إسرائيل) على مواصلة عملياتها ضد القواعد الإيرانية في سوريا وعزم إيران تنفيذ عمليات انتقامية في العمق الإسرائيلي, وهو ما يكشف كذب الادعاء بأنها قادرة على التعامل مع عدة جبهات في آن واحد, كما يعترف بذلك الجنرال عاموس جلعاد, إذ إنها ستكون مطالبة بإخلاء سكان من المنطقة الشمالية والمنطقة الجنوبية مما يشكل عبئًا كبيرًا على مناطق أخرى لن تكون بمنأى عن صواريخ خصومها.
ثالثًا- تدهور الحالة الصحية لرئيس السلطة خلال الأسابيع الماضية أشعل الضوء الأحمر في أروقة صناع القرار السياسي والعسكري في (إسرائيل) وذلك على ضوء تقديرات الموقف التي تشير إلى أن مرحلة أبو مازن لن تتكرر وأن مناطق الضفة ستشهد حالة من الصراعات الداخلية بين أقطاب السلطة وهو ما قد يؤدي لحالة من عدم الاستقرار وفقدان أجهزة أمن السلطة قدرتها على القيام بمهام التنسيق الأمني بالمستوى المطلوب.
رابعًا- استمرار فعاليات مسيرة العودة ودخول مناطق السلطة في حالة عدم الاستقرار سيشكل تربة خصبة لاندلاع انتفاضة ثالثة في الضفة وتجدد العمليات الفردية ضد الإسرائيليين.
خامسًا- الخشية من الدخول في حالة من الاستنزاف التي ستضطرها لإبقاء أعداد كبيرة من الجنود والوحدات الخاصة, عدا عن إشغال عدد كبير من الباحثين والضباط للبحث عن حلول للتعامل مع فعاليات مسيرة العودة ووسائلها الإبداعية, والأهم من ذلك هو تجنب الدخول في مواجهة جديدة في مرحلة غير مناسبة لها, كما أنها ستكون أمام معضلة أخرى تتمثل في إقناع المجتمع الإسرائيلي بتحمل تداعياتها وتقبل سقوط ضحايا, لا سيما أنها كانت قادرة على منعها من خلال تخفيف الحصار عن غزة ونزع فتيل الأزمة.
سادسًا- مواصلة السياسة الإسرائيلية في التعامل مع مسيرة العودة وسقوط المزيد من الشهداء, قد يفاقم الأزمة بينها وبين المجتمع الدولي لا سيما أن سياستها تتناقض مع القانون الدولي, وليس أدل من ذلك هو ما حذر منه أحد مسؤولي الاتحاد الأوروبي حينما نصحها بعدم الاستهانة بالمجتمع الدولي الذي يعيش تحت ضغط من الرأي العام.
سابعًا- حرص (إسرائيل) على تطوير علاقاتها مع العالم العربي في المجالات الاقتصادية والثقافية وغيرها وعدم اقتصارها على التعاون الأمني الذي وصل إلى مراحل غير مسبوقة؛ لأنها تخشى من تأثر الشارع العربي بما يحدث في غزة والضفة وخصوصا القدس, والخشية الأكبر هي إمكانية حدوث تغيرات لا تنسجم مع مصالحها.
هذه الدوافع قد لا تكون كافية لإقناع صناع القرار في (إسرائيل) لقبول شروط الهدنة لا سيما أن هناك عدد من المعيقات التي قد تمنع التوصل لتفاهمات:
أولًا- الرؤية الاستراتيجية لـ(إسرائيل) ترى بأن حماس عدوّ عنيد لا يمكن أن يعترف بـ(إسرائيل) أو تتخلى عن سلاحها يومًا من الأيام, وهو ما قد يدفعها لتفضيل الحلّ الإستراتيجي الذي يتمثل باستمرار المحاولات لإخضاعها والقضاء على قوتها العسكرية أو ترويضها, واستبعاد الحلول المرحلية؛ لأنها تعتقد بأن حماس ستواصل بناء قوتها العسكرية.
ثانيًا- اشتراط (إسرائيل) بالإفراج عن جنودها الأسرى مقابل مساعدات إنسانية دون الإفراج عن أسري فلسطينيين وهو ما قد يتعارض مع رؤية المقاومة ومبادئها.
ثالثًا- الدور الذي قد تقوم بعض الجهات التي تري بأن التخفيف عن غزة يعني القضاء على مكانتها ودورها.
رابعًا- قدرة حماس على منع (إسرائيل) من استغلال هذه الفرصة لترسيخ الانقسام بين غزة والضفة واستغلالها لتمرير صفقة القرن بناء على الرؤية الأمريكية التي تري بأن الهدوء في غزة سيساعد على تمريرها, كما أشار إلى ذلك الون بن دافيد.
على ضوء ذلك يجب ألّا نرفع سقف توقعاتنا وأن نتعامل مع المتغيرات بواقعية, وفي المقابل الاستمرار في فعاليات مسيرة العودة إلى أن تُحقق أهدافها, والأهمّ من ذلك هو أن تبقى المقاومة على جاهزية تامّة ودائمة لصدّ أي عدوان محتمل ومنع (إسرائيل) من مواصلة اعتداءاتها, كما يجب ألّا ننسى بأن التحرّك العربيّ والدوليّ كان بفضل الدماء الزكيّة التي سالت على أرض غزة, وبفضلها سنحقق أهدافنا عاجلًا أم آجلًا.