فلسطين أون لاين

قُنبلة محلّ الرّغيف

...
كتبت - حنان مطير


كانت في عمر السادسة عشرة آنذاك، ولم يمضِ على زواجِها سوى شهرين، حيث سلبت لبّها "المقاومةُ" المُطارَدةُ في البيّارات وبين الدّور، فظلّت الثّورة تداعب روحَها، لتغلي في قلبِها تمرّدًا على المحتلّ.

اليوم تقبض الحاجة "أم باسم" (55 عامًا) على عكّازِها، وتجلس في خيمة العودة على الحدود الشرقية، شمال قطاع غزّة، وتستحضر حكاياتها القديمة من عيون الشباب الثائر وقلوبهم المُتَّقِدة للعودة والتحرير، كلّما مرّوا من أمامِها.

تشير إلى السلك الحدودي الذي اقترب منه الشباب وراحوا يطلقون طائرةً ورقيّة مشعلةً بالنيران وتقول: "إنني أرى نفسي فيهم، لقد كنتُ مثلَهم يا بنتي، ويا لحظّ من يملك ما يملك أولئك الشّباب".

وتضيف بكلماتٍ حادّة: "هؤلاء هم من سيحررون البلاد، إنهم كالسّباع".

في السبعينات، كانت أم باسم تنتظر مرور المقاوِمين المطلوبين لجيش العدوّ الإسرائيليّ من باب بيتِها لتقدّم لهم عصير الليمون أو إبريق الشاي أو القهوة بلا تردّد أو خوف، تعلّق: "وكأنني أسرق فعلتي سرقة لكنها أجمل سرقةٍ على الإطلاق، فأن تُقدّم شيئًا أو تفعل فعلاً ما يمنعُه الاحتلال ويُجرّمه لَأَمرٌ يُشعرك بالقوّة والتّحدّي، وأنا أعشق التّحدّي".

وتتساءل: "فكيف إن كان خدمةً للمقاومين الذي يضحّون بأرواحِهم من أجل حمايتنا والدفاع عن البلاد؟".

مساعدة المُطارَدين

وتروي لـ"فلسطين": "أخبرت المطاردين أنني مستعدّة لمساعدتِهم في أي شيءٍ يطلبون، ومهما بلغت خطورتُه، إذ بتُّ أرى (إخوتي) في هيئة كل مُقاومٍ مُطارَدٍ حتى كلّفوني بأن أنقل لهم القنابل من مكانٍ لآخر".

وعن طريقة ذلك تضيف: "في السبعينات، كنا نخبز الخبز عند الفرّانين، فنحمل فَرْش العجين أو صينية الحلوى على رؤوسِنا، ونذهب بها للفرّان الذي بدورِه يقوم بمهمته في الخبيز فنأخذه جاهزًا".

وتتبع: "كنت أحمل القنابل المتفجرة في "طَشتٍ" وألفّها ببطّانية العجين الخاصة، وأسير إلى المكان الذي طلبوا مني توصيل القنابل إليه، وفي مرات عديدة يمرّ بجواري جنود جيش الاحتلال فأسير بكل ثقةٍ، فلا يشكّ بي أحد".

أما أكثر ما أثار فيها الرّعب ذات مرّة، أنها، وفق قولِها، كانت في الطريق لتوصيل الطعام لوالديّ زوجِها في إحدى البيارات، وأمام باب البيارة أوقفها طفل يقارب في عمره الحادية عشر ويطلب منها مساعدته في نقل كيسٍ ضخمٍ مليء بالقنابل إلى إحدى النقاط.

تروي: "جيش الاحتلال لم يكن بعيدًا عن المنطقة والطائرات كان تحوم في سماء غزّة بصوتٍ أربكني للغاية، لكنني أحضرتُ له سيارةً على الفور ودبّرت الأمر حتى وصلني الخبر فيما بعد أن الأمانة وصلت بسلام".

تصف: "خِفت كثيرًا وما زلت أتذكّر دقّات قلبي العنيفة، وبمجرّد أن انطلقت السيّارة وابتعدت عن أنظارِنا حتى تفاجأنا بالجيش الإسرائيليّ فوق رؤوسنا يسألنا إن كنا ساعدنا أحدًا كان يحمل كيسًا من المتفجّرات..".

وتوضح: "يومها نبشوا كل شبرٍ من الأرض في البيّارة وحولها، لقد قلبوها رأسًا على عقب، لكن الله سلّم".

الروح الثورية

وتحكي أم باسم أنها كانت تسير في مسيرات تشييع جثامين الشهداء، ولا تتخاذل عن ذلك تحت أي ظرف، فيصل صوتها مع الجماهير عنان السماء حزنًا وثورةً ووطنيّة، وتروي في ذلك قصّة لـ"فلسطين"، تقول فيها: "كانت والدتيفي المستشفى تلِد أحد إخوتي، وفي ذات الوقت كنت في نفس المستشفى من أجل تشييع جثمان أحد الشهداء واسمه (صادق)، فأجبرتُ والدتي أن تسمي أخي باسم (صادق)، فلم تتردّد والدتي في ذلك متفائلةً بمعناه ومناسبته".

كانت أم باسم تروي حكاياتها منفعلةً وهي تعود بذاكرتِها للماضي القديم الذي وصفته بالجميل الثوريّ، فتعلو بنبرة صوتِها تارةً وتسكُن أخرى وفق المشهد الذي تسردُه، بينما هي تجلس على كرسيٍ ومن حولِها أبناؤها وإخوتها والكثير من أقاربِها وقد أعدّوا غداءً على نار الأحطاب، وفيه تربّعت زبدية السلطة الخضراء، وطبق الزيتون الأخضر وأرغفة خبز الصّاج الشهيّ.

وتختم حديثها بالقول:" كفانا ذُلا وحصارًا وظلمًا من المحتل، فها أنا بحاجةٍ للخروج للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية وإجراء عملية جراحية، لكنني مرهونةٌ بمزاج المحتل على معبر إيرز الذي بإمكانه أن يرفض أو يقبل وفق هواه".

وتضيف: "هؤلاء الشباب أولادُنا هم من سيحررون الأرض، فلا المفاوضات تعيد البلاد ولا (المهاترات)، بل الثّورة والقوّة، وكان لا بد للمسيرات أن تُنظّم منذ زمن بعيد وليس اليوم، لكن أن يأتي متأخرًا خير من أن لا يأتي أبدًا".