قائمة الموقع

مسعفون ينتزعون "الأنفاس" من بين الرصاص

2018-04-30T06:32:03+03:00

"هات الشيالة والحقني".. هكذا نادى المسعف "فارس عفانة" زميله، بعد أن اتخذ قرارًا بالتقدم نحو 25 شخصا احتُجزوا على بعد عشرة أمتار من السلك الشائك على الحدود الشرقية لجباليا، حبسوا أنفاسهم لمدة ساعة ونصف لم يسمعوا فيها سوى زخات الرصاص الموجه إليهم.

تقدّم "عفانة" بخطوات بطيئة نحو المحتجزين، مشجّعًا زميله حتى لا يخاف من غدر المحتل: "تقلقش، ارفع ايديك، ملابسنا تحمينا" وما هي إلا لحظات حتى لحق بهما ضباط إسعاف آخرين استمدوا الشجاعة من بسالته، وبذلك تمكنوا من إخراج كل من في الحفرة، وحملوا على أكتافهم الفتية الذين أُصيبوا بالهلع.

تم تصوير هذا الموقف، فانتشر المشهد على مواقع التواصل الاجتماعي مع بداية أحداث فعاليات مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار، ولكن ماذا عن المواقف التي لا حصر لها، والتي لم يتم تصويرها.. هذا ما نبحث عنه في التقرير التالي، إذ سألت "فلسطين" عددًا من المسعفين عن أبرز تجاربهم ومشاهداتهم أثناء عملهم في المناطق الحدودية في إسعاف المصابين في مسيرة العودة.

تلك المواقف تتنوع بين معايشة للخطر الذي يتعرض له المتظاهرون العُزل، وبين الخطر المحدق بالطواقم الطبية، ففي فلسطين فقط، المسعفون تحت مرمى نيران جنود الاحتلال الاسرائيلي، حتى زيّهم الرسمي لا يضمن حمايتهم، على عكس ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني الذي يكفل لهم حرية الحركة وعدم الاستهداف في مناطق النزاعات والحروب.

بعد السلك الشائك

بالعودة إلى "فارس عفانة"، هو يشغل منصب مسئول قسم الإسعاف والطوارئ في مجمع كمال عدوان الطبي، ومسئول عن وحدة الإسعاف في منطقة أبو صفية الحدودية الشمالية، حيث تنتشر ثلاث طواقم ميدانية طبية تابعة لمستشفى كمال عدوان، ومهمة المسعفين فيها التعامل مع المُصابين لحظة حدوث الإصابة قبل وصول سيارة الإسعاف.

تحدّث لـ"فلسطين" عن المخاطر التي يتعرض لها المسعفون في الميدان، فقال: "وفق عملنا، يجب أن نبقي على بعد 50 مترًا من السلك الشائك، وألا نكون بين المواطنين، حتى لا نعطي للاحتلال ذريعة لاستهدافنا".

وأضاف: "لا نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي في حال وجود إصابات في المنطقة التي لا يُسمَح لنا بدخولها، وهذا ما حصل في الموقف الذي تم تصويره".

وتابع: "بعض ضباط الإسعاف تجاوز السلك الشائك الأول وقام بإسعاف المصابين الذين وقعوا في تلك المنطقة الخطرة".

تعرضت طواقم الإسعاف للاستهداف من قبل جنود الاحتلال، حيث أُصيب ضابط إسعاف بطلق ناري في القدم في رفح جنوبي القطاع، وآخر في خانيونس، بالإضافة إلى إطلاق قنابل الغاز باتجاه الطواقم، الأمر الذي أدي إلى اختناق عدد كبير من المسعفين وكانت حالتهم فوق المتوسطة.

"لا التهور يُنقص العمر، ولا الجُبن يزيد العمر", بهذه العبارة يؤكد عفانة أن إنقاذ أرواح المواطنين أمرٌ حتمي لا مجال للتفكير فيه، وأن لا فرصة الوقوف عند لحظة خوف، لأن مهمة ضابط الإسعاف هي إنقاذ روح الإنسان أولا.

وأوضح: "لا نأخذ أي احتياطات، فليس هناك أي ساتر نحتمي خلفه، بل نحتمي بالزي الذي نرتديه، وهو الزي الذي تعترف به منظمة الهلال الأحمر الدولية".

وأضاف: "في جميع دول العالم عند حدوث أي كارثة أو حرب أو نزاع، تستنفر الطواقم الطبية لتنقذ أبناء شعبها، ونحن لن نتخلى عن هذا الواجب".

في الظروف الصعبة، يتصرف المسعفون بما يتناسب مع الحدث، فمثلا في الجمعة الأولى لمسيرة العودة، واجهت طواقم الاسعاف صعوبات بسبب كثرة عدد الإصابات وقلة سيارات الإسعاف، مما اضطرهم إلى نقل إصابتين أو ثلاثة معًا في السيارة الواحدة، إلا إذا كانت الحالة خطيرة، إذ يتم نقلها إلى المستشفى فورا، بحسب عفانة.

ومن خلال مشاهداته، وصف عفانة الإصابات بأنها "نوعية"، موضحا: "هذا يدل على استخدام الاحتلال لسلاح محرم دوليًا، حيث يخترق جسم الإنسان وينفجر داخله، ويسبب كسرًا في العظم ونزيفًا، وإذا لم يتم التعامل مع الإصابة بشكل سريع سيفقد المصاب حياته، وجلّ الإصابات في منطقة الفخذ، وخطورة الإصابة هنا هي في قطع الشريان الرئيس، والتعامل معه يتطلب سرعة لا تتجاوز الدقائق".

يُسعف.. فأُصيب

أما المسعف مراد النجار، فقد أُصيب بطلق ناري في قدمه أثناء إسعاف مصابٍ آخر على الحدود الشرقية لمدينة رفح في "جمعة الكاوتشوك"، الجمعة الثانية لمسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار.

"النجار" يقطن في خزاعة شرق خانيونس، يعمل ضابط إسعاف في وحدة الخدمات الطبية في رفح منذ 2010، تعرّض لعدّة مواقف صعبة، ولكن الموقف الأصعب هو إصابته.

أوضح" "نقلت مع زملائي 16 إصابة في المكان، وأثناء تقدمي حاملا (الحمالة)، فجأة وجدت نفسي أقع على الأرض، إذ أُصبت برصاصة في الفخذ الأيسر".

ومن أولى مهام ضباط الإسعاف تأمين النفس والمكان، ولكن من ناحية إنسانية فإن إنقاذ الروح في المكان هو الأهم، مهما بلغ حجم الخطر الذي قد يتعرض له المسعف.. هذا ما يؤمن به النجار.

وذكر أنه خاطر بحياته لإنقاذ ستة شباب اقتربوا من السلك لمسافة عشرة أمتار، إذ قام بإخلائهم من المنطقة.

ومن المواقف الصعبة أيضا، روى النجار: "في ساعات الصباح الباكر وقف زميل لي، ضابط إسعاف في الصليب الأحمر، على خط شارع (جكر) وماهي إلا لحظات حتى وقع مصابا".

عن لحظة خطرٍ أخرى، أضاف: "في لحظة خِلتُ أنني سألقى حتفي مع زملائي الخمسة الباقين، حيث قام جنود الاحتلال باستهداف سيارة الاسعاف ونحن بداخلها بقنابل الغاز التي سقطت عند باب السيارة، فلم نستطع الخروج منها، واختنقنا من الرائحة وفقدنا الوعي، ولكن أنقذتنا العناية الإلهية، عندما أفاق السائق للحظات فتحرك بالسيارة بعيدا عن الغاز" .

وتساءل النجار: "أين منظمات حقوق الإنسان والقانون الدولي من حمايتنا؟، ألا يلاحظوا أن الاحتلال يتعامل على أنه فوق قوانينهم؟!".

عندما توقف قلبه

وعلى الحدود الشرقية لمدينة غزة، في مخيم العودة المُقام عند موقع ملكة، تعرض المسعفون هناك لمواقف خطِرة في مواجهة قريبة من قوات الاحتلال، تحدث عنها ضابط الإسعاف في وحدة الخدمات الطبية العسكرية في غزة "زكريا الدريملي".

أصعب تلك المواقف كانت توقف قلب زميله بعد أن تعرض لقنبلة غاز "لونه أخضر"، قال: "أثناء نقلنا لبعض الإصابات للمستشفى الميداني، ألقى جنود الاحتلال قنابل غاز، حينها شاهدت زميلي يقع أرضا، فحملناه أنا وزميل آخر لنبعده عن مكان الخطر، وعندما وصلنا إلى المستشفى الميداني فوجئنا بوجود زميل آخر يتلقى العلاج".

وأضاف: "ولخطورة وضعهما، تم نقلهما بسيارة الإسعاف إلى المستشفى، وفجأة فقد أحدهما الوعي، وتوقف قلبه، وسريعا قدمت له الإسعافات الأولية ووضعت له كمامة الأكسجين حتى عاد النبض إلى قلبه".

وفي الجمعة الأولى لمسيرة العودة، لا ينسى "الدريملي" مشهد الشهيد "أحمد عودة" الذي كان يقف بالقرب منه، على مسافة بعيدة من السلك الشائك، حينها نادى "عودة" على "الدريملي" لينبهه إلى مكان وقع فيه بعض المصابين، مشيرا بيده إلى حيث هم.

وما أن أنهى نداءه حتى اخترقت رصاصة رأسه، ونُقل إلى سيارة الإسعاف، وقُدمت له الإسعافات الأولية، ولكنها لم تجدِ نفعا، لأن إصابته كانت بالغة فأدت إلى استشهاده.

اخبار ذات صلة